الدرس212 _مكان المصلي 5
الدليل الثاني: ما ذكره جماعة من الأعلام، منهم صاحب الجواهر، وصاحب المدارك (رحمها الله)، قال الأخير: «لأنّ الحركات والسّكنات الواقعة في المكان المغصوب منهيّ عنها، كما هو المفروض، فلا يكون مأموراً بها، ضرورة استحالة كون الشيء الواحد مأموراً به، ومنهيّاً عنه...».
وحاصله: امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي، لاستحالة التكليف هنا، إذ لا يعقل تصور تحقق طلب الفعل، وطلب تركه، في وقت واحد من مكلَّف واحد، إذ الحركات الصلاتيّة وأكوانها تصرّف في ملك الآخر بغير إذنه، وهو مبغوض عند الله تعالى، ومحرّم شرعاً، ومبغوض لديه، فلا يكون مقرِّباً إليه تعالى حتّى يصبح وقوعه عبادة.
إن قلت: إنّ الأمر متعلّق بطبيعة الصّلاة، وهي من حيث هي محبوبة لله تعالى، والفرد الخارجي مقدمة لإيجاد الطبيعة، ووجوب المقدّمة توصّلي يجوز اجتماعه مع الحرام.
قلت: هذا الكلام باطل، إذ ليس لطبيعة الصّلاة وجود مغاير لوجود الفرد حتّى يختلف حكمهما من حيث الوجوب والحرمة، ضرورة أنّ الفرد مصداق للطبيعة فتُحمل الطبيعة عليها حَمْل مُوَاطاة، ومناطه الاتحاد في الوجود، فالحركات الخاصّة كما أنّها إيجاد للفرد، كذلك هي بعينها إيجاد للطبيعة، وهي بعينها محرّمة لكونها مصداقاً للغصب، هذا ما ذكره جماعة كثيرة من الأعلام.
وأشكل عليهم جملة من متأخّري المتأخّرين، منهم صاحب الحدائق R بأنّه لا بأس باجتماع الأمر والنهي في واحد شخصي إذا اختلفت جهتاهما.
قال R في الحدائق: «وأمّا ما ذكره في المدارك من التعليل فالظاهر أيضاً أنّه عليل لا يبرد الغليل، فإنّ للقائل أن يقول: إنّ ما ذكره من أنّ اجتماع الأمر والنهي في شيءٍ واحدٍ مُحَال، وهو الذي بنى عليه الاستدلال إن أُرِيد به مع اتِّحاد جهتي الأمر والنهي فهو مسلَّم، ولكنّ الأمر هنا ليس كذلك، لِمَا عرفت في مسألة اللباس، وإن أُرِيد ولو مع اختلافهما فهو ممنوع إلى أن قال: فإنّ الحركات والسَّكنات التي هي عبارة عن القيام والقعود والرّكوع والسُّجود مأمور بها من حيث كونها أجزاء من الصّلاة، وواجبات فيها، ومنهيّ عنها من حيث كونها تصرّفاً في مال الغير، فتصحّ الصّلاة، وإن كانت كذلك إلى أن قال: وبذلك يظهر أنَّ ادِّعاءَ كونِ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد مُحَالاً ليس على إطلاقه، بل إنّما هو معِ اتِّحاد جهتي الأمر والنهي...».
وفيه: من الغرابة ما لا يخفى، فإنّه لو كان لفعلٍ واحدٍ شخصيٍّ جهاتٌ مختلفة، وعناوين متعدِّدة فإن الحكم الفعلي يتبع جهته القاهرة المؤثِّرة في حُسْن الفعل، وقبحه، من حيث صدوره من المكلَّف، فإنّه بهذه الحيثيّة ليس له إلاّ جهة واحدة، فإنّ كانت مفسدته هي الغالبة فيقبح، وإن كانت مصلحته هي الغالبة فيحسُن، وإن تكافأتا فيُباح.
والإنصاف: أنّ ما ذكره الأعلام من البطلان في صورة اجتماع الأمر والنهي في شيءٍ واحد شخصيّ في غاية الصحّة والمتانة، إلاّ أنّ الكلام أنّ اجتماعهما في الخارج هل هو انضمامي، أم اتّحادي، فالقول بالبطلان مبني على القول بالاتّحاد بينهما خارجاً.
وعليه، فلا بدّ من بحث هذه المسألة صغرويّاً، وقد بحثناها بالتفصيل في علم الأصول.
وحاصلها: أنّ الحكم باتّحاد عنوان الغصب والصّلاة وعدم اتّحادهما خارجاً يتوقّف على ملاحظة منشأ انتزاعهما، فلو تبيَّن أنّ جُزْءاً من أجزاء الصّلاة كان منشأً لانتزاع عنوان الغصب فإنهما يتحدان حينئذٍ، وإلاّ فلا.
وعليه، فلا بدّ من بيان أجزاء الصّلاة بالتفصيل حتّى نرى إن كان منشأ لانتزاع عنوان الغصب أم لا.
أقول: أمّا النية، والتي هي أوّل جُزْء شرعي من الصّلاة فهي من مقولة الكيف النفساني، ومن الواضح أنّها ليست تصرُّفاً في مال الغير عرفاً، لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج، ومن المعلوم أنّ الغصب لا يصدق على الأمور النفسانيّة.
وأمّا التكبير، وكذا القراءة والتسبيح، وباقي الأذكار الواجبة: فكلّها من مقولة الكيف المسموع، وهي أيضا لا تنطبق على الغصب، إذ لا يُقال لمن يتكلم في الدار المغصوبة أنّه غاصب بسبب التكلّم فيها.
وعليه، فليس التكلّم مصداقاً للغصب.
إن قلت: إنّ التكلّم وإن لم يكن تصرّفاً في الدّار، إلاّ أنّه تصرّف في فضائها، باعتبار أنّه يوجب تموُّج الهواء فيه.
قلت: لو سلّمنا بكون هذا تصرفاً عقلاً إلاّ أنّه ليس تصرّفاً عرفاً، فلا تشمله أدلّة الغصب.
وأمّا الرّكوع وكذا القيام والقعود فهي من مقولة الوضع، وهي لا تنطبق على الغصب أيضاً.
وبعبارة أخرى: أنّ تلك الهيئات ليست مصداقاً للغصب، ولا متّحدة معه في الخارج، وليست منشأً لانتزاعه، بل يستحيل أن تتحد مع الغصب، لفرض أنّ الغصب منتزع من الكون في الأرض المغصوبة، وهو من مقولة الأين، وتلك الهيئات من مقولة الوضع.
لا يقال: إنّ القيام تصرّف في الأرض المغصوبة، لأنّ القيام الذي هو الوقوف فيه اعتماد على الأرض فيتّحد مع التصرّف في الأرض المغصوبة.
قلت: لا يُعتبر في القيام الاعتماد على الأرض، فلوِ استطاع أن يصلّي رافعاً رجلَيْه عن الأرض لأجزأ.
ثمّ لو سلّم باعتباره فلا دليل على كونه بنحو الجزئيّة، بل يمكن كونه بنحو الشرطيّة، وشروط العبادة من حيث هي شروط عبادة لا يُعتبر فيها التقرّب، فكونه محرّماً لأنّه تصرّف في المغصوب لا يقتضي فساد الصّلاة، كما هو معلوم، هذا كلّه بالنسبة إلى نفس الرّكوع والقيام والقعود.
وأمّا الهوي إلى الرّكوع والسُّجود أو النهوض منهما: فالمفهوم من الأخبار أنهما ليسا جُزْءاً من الصّلاة، وإنّما هما مقدّمة لهما، وبما أنّهما تصرّف في فضاء الغير فهما محرّمين.
ولكن قد أشرنا سابقاً في مبحث مقدّمة الواجب أنّ حرمة المقدّمة لا تنافي إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة، وأمّا إذا كانت منحصرةً فتقع المزاحمة بين حرمة المقدمة، ووجوب ذيها، كما لو توقّف إنقاذ الغريق مثلاً على التصرّف في مال الغير، ولم يكن له طريق آخر لإنقاذه، فهنا يقع التزاحم بينهما، ويرجَّح الأهم، هذا كلّه بناءً على كون الهوي إلى الركوع والسُّجود والنهوض منهما مقدّمة للواجب.
وأمّا إذا اعتبرناهما جُزْءاً من الصّلاة فلا بدّ من القول بالامتناع لفرض أنّ الصّلاة متّحدة مع الغصب في الخارج، ومصداقاً له، ولو باعتبار بعض الهوي إليهما والنهوض منهما ومن المعلوم أنّه يستحيل أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به، والمنهي عنه معاً.
نعم، إذا فرضنا أنّ الصّلاة لم تكن مشتملة على الرّكوع والسُّجود كما إذا كان المكلف عاجزاً عنهما، وكانت وظيفته الصلاة مع الإيماء والإشارة بدلا عنهما، فالإشكال حينئذٍ في صحة الصلاة.
والخلاصة إلى هنا: أنّه بناءً على كون الهوي والنهوض مقدّمةً للصّلاة، وليسا من أجزائها، كما هو الصحيح، فلا بدّ من القول بجواز الاجتماع، إلاّ أنّه يبقى عندنا السُّجود على الأرض الذي هو من أجزاء الصّلاة حتماً، فهل هو متّحد مع الغصب، أم لا؟
نقول: إِن اكتفينا بالمماسّة للأرض في السُّجود الذي لا يُعدّ تصرّفاً عرفاً، وبالتالي لم نعتبرِ الاعتماد على الأرض، فيكون السُّجود حينئذٍ من مقولة الوضع، فلا يجتمع مع الغصب، فنذهب إلى الجواز، وإن اعتبرنا فيه الاعتماد على الأرض، الذي هو تصرّف عرفاً، كما هو الصحيح فيجتمع مع الغصب، فنذهب إلى الامتناع.
والخلاصة: أنّ البطلان منحصر في السُّجود على الأرض، فلو كانت الصّلاة فاقدةً له كما لو كانت إيماءً، أو كان السُّجود فقط على الأرض المباحة، كما لو كان واقفاً في آخر الأرض المغصوبة، وسجد على المباح، فتصحّ حينئذٍ، والله العالم.
(1) المعروف بين الأعلام أنّه لا فرق في بطلان الصّلاة في المكان المغصوب بين مغصوب العين والمنفعة ولو بدعوى الاستيجار، أو الوصيّة بها، أو الوقف، كذباً، بل من الغصب التصرّف في الأعيان التي تعلّق بها حقّ كحقّ الرّهن، وحقّ غرماء الميّت، وحقّ الميّت إذا أوصى بثُلُثه، ولم يفرز بعد، وحقّ السّبق، كمن سبق إلى مكان من المسجد، أو غيره، فغصبه منه غاصب.