الدرس 159 _ المقصد الأول في الاوامر 91
ثمرات وجوب المقدمة:
بعد الفراغ عن ذكر الأقوال في وجوب المقدمة وأدلتها، يشرع صاحب الكفاية في ثمرات القول بوجوب المقدمة:
الثمرة الأولى: (ثمرة وجوب خصوص الموصلة)
قال صاحب الكفاية R: «بقي شيء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة، هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقاً واجباً، ليكون فعلها محرماً، فتكون فاسدة، بل فيما يترتب عليه الضد الواجب، ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك واجباً، فلا يكون فعلها منهياً عنه، فلا تكون فاسدة».
يقع الكلام هنا في الثمرة المترتبة على القول بوجوب المقدمة مطلقاً، كما عليه المشهور، ووجوب خصوص المقدمة الموصلة، كما عليه صاحب الفصول. وصيغة هذه الثمرة أنّه لو دخل المكلف المسجد للصلاة مع فرض سعة وقتها، ولا تزاحم هنا لفرض سعة الوقت، فوجد فيه نجاسة، فتوجّه إليه أمران: أمرٌ بالصلاة، وأمرٌ بوجوب إزالة النجاسة فوراً، إلا أنّه ترك امتثال الأمر الثاني وباشر بالصلاة، فهل تقع الصلاة صحيحة؟ هنا تظهر الثمرة؛ إذ بناءً على وجوب المقدمة مطلقاً، تكون الصلاة فاسدة، وبناءً على وجوب خصوص الموصلة، تكون الصلاة صحيحة.
وتوضيحه: إنّ هذه الثمرة تتوقف على أمور أربعة:
الأول: أن يكون ترك أحد الضدّين مقدمة لوجود الضد الآخر. وعليه، فإنّ ترك الصلاة مقدمة للإزالة الواجبة والتي هي أهمّ. ولكن سوف يأتي أنّ ترك أحد الضدين ليس مقدمة للضد الآخر.
الثاني: أن تتوقف على وجوب المقدمة، فلو كان ترك الصلاة مقدّمة للواجب الآخر، ولم يكن ترك الصلاة واجباً مقدمياً، فلا تظهر الثمرة.
الثالث: أن تتوقف على كون الأمر بالشيء، وهو ترك الصلاة موجباً للنهي عن ضده، وهو الصلاة.
الرابع: أن تتوقف على كون النهي الغيري عن العبادة يقتضي فسادها كالنهي النفسي.
وقد يشكل على هذه الثمرة بأنّ فساد العبادة لا يتوقف على وجوب ترك الصلاة من باب المقدمة، بل لو لم نقل بمقدميّة ترك أحد الضدين لوجود الضد الآخر، أو لم نقل بوجوب المقدمة، فالعبادة فاسدة أيضاً؛ لمكان عدم الأمر بها؛ حيث إنّ ضدّها وهو الإزالة مثلاً يكون مأموراً به، ولا يمكن الأمر بالضدين، فلا تكون الصلاة مأموراً بها، وعدم الأمر بها يكفي في فسادها.
لكن الإنصاف: أنّ هذا الإشكال غير وارد لما سيأتي من الأمر من باب الترتب، فالإشكال فيها منحصر من حيث النهي عنها.
إذا عرفت ذلك، فنقول: بناءً على هذه الأمور الأربعة، فإذا كان الواجب مطلق المقدمة، فيكون ترك الصلاة مطلقاً واجباً سواء أوْصَل إلى الإزالة أم لا، ومع وجوب الترك يحرم ضده، وهو الصلاة، ومع النهي عنها تقع فاسدة؛ لأنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد.
وأمّا بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة، فيكون ترك الصلاة الموصل للإزالة مقدمة للإزالة، وبالتالي طالما المكلّف مشغولاً بالصلاة لا يتحقق الترك الموصل. وعليه، فلا يكون تركها واجباً لأنّه غير موصل، ومع عدم وجوب الترك فلا نهي عن الصلاة، ومع عدم النهي تكون الصلاة صحيحة.
إشكال الشيخ الأعظم على الثمرة الأولى:
قال صاحب الكفاية R: «وربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد، وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة، بناء على المقدمة الموصلة، إلا أنّه لازم لما هو من أفراد النقيض، حيث إنّ نقيض ذاك الترك الخاص رفعه، وهو أعم من الفعل والترك الآخر المجرد».
لم يرتضِ الشيخ الأنصاري R هذا التفريق في الثمرة الأولى، فذهب إلى فساد الصلاة سواء قلنا بوجوب المقدمة مطلقاً، أم بوجوب خصوص الموصلة.
وتوضيحه: أوّلاً: إنّ نقيض كلّ شيء رفعه؛ فنقيض (الحيوان) (لا حيوان)، ونقيض (الإنسان) لا (إنسان).
ثانياً: إنّ نقيض الأخصّ أعمّ من نقيض الأعمّ؛ فالحيوان أعمّ من الإنسان؛ لأنّه يشمله ويشمل غيره من أنواع الحيوانات، إلا أنّ نقيض الإنسان (لا إنسان) أعمّ من نقيض الحيوان (لا حيوان)؛ لأنّ (لا إنسان) يشمل كل حيوان غير إنسان، وكل ما ليس بحيوان أيضاً، بينما (لا حيوان) لا يشمل سوى ما ليس بحيوان فقط.
وبناءً عليه، فبما أنّ (ترك الصلاة مطلقاً) وهي المقدمة للإزالة على قول المشهور، أعمّ من (ترك الصلاة الموصل للإزالة) على قول صاحب الفصول، فيكون نقيض الأوّل أخص من الثاني؛ أي (ترك ترك الصلاة مطلقاً) أخص من (ترك ترك الصلاة الموصل)؛ فإنّ لـ (ترك ترك الصلاة مطلقاً) فرداً واحداً، وهو الصلاة، بينما لـــــ (ترك ترك الصلاة الموصل) فردان، هما: الصلاة وغير الصلاة؛ كالنوم والمشي ونحوهما. وهذا كافٍ في إثبات الحرمة للصلاة، وإلا لم يكن فعل الصلاة محرّماً فيما إذا كان الترك المطلق واجباً؛ لأنّ الفعل أيضاً ليس نقيضاً للترك المطلق؛ لأنّ الفعل أمر وجودي، ونقيض الترك إنّما هو رفعه، فيصبح النقيض (ترك ترك الصلاة)، وهو أمر عدمي مفهومه مغاير لمفهوم الأمر الوجودي، نعم ترك الترك يلازم الفعل في الخارج وليس عينه.
وعليه، فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل، فكذلك تكفي في المقام، غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأمّا النقيض للترك الخاص فله فردان، وذلك لا يوجب فرقاً فيما نحن بصدده.
أجاب صاحب الكفاية على كلام الشيخ الأعظم بقوله: «قلت: وأنت خبير بما بينهما من الفرق، فإنّ الفعل في الأول لا يكون إلا مقارناً لما هو النقيض، من رفع الترك المجامع معه تارة، ومع الترك المجرد أخرى، ولا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه، فضلاً عما يقارنه أحياناً... فتدبر جيداً».
يقول R: بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة، وبالتالي وجوب ترك خصوص الصلاة الموصل للإزالة، تكون الصلاة أمراً مقارناً لنقيض الترك الموصل وليست أمراً لازماً له، وإذا كان الحكم لا يسري من أحد المتلازمين إلى الآخر؛ كما إذا وجب استقبال الجنوب حين الصلاة باعتبار أنّ القبلة عندنا في بلاد الشام إلى جهة الجنوب مع المَيل قليلاً إلى الشرق، وفي العراق إلى الجنوب مع المَيل قليلاً إلى الغرب، فإذا وجب استقبال الجنوب لم يجب استدبار الشمال شرعاً مع كون الثاني ملازماً للأوّل؛ إذ لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، نعم يجب أن لا يكون الملازم الآخر؛ كاستدبار الشمال في المثال المفروض محكوماً بحكم فعلي آخر مخالف لحكم ملازمه كالحرمة.
والخلاصة: إذا كان الحكم لا يسري من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، فالأولى عدم سرايته من المقارن.
أمّا بناءً على وجوب مطلق المقدمة، وبالتالي وجوب ترك مطلق المقدمة، فتكون الصلاة هي نقيض الترك، فتحرم بنفسها.
إن قلتَ: ولكن مفهوم (ترك ترك الصلاة) أمر عدمي، فكيف يكون هو الصلاة نفسها، والحال أنّ مفهومها أمر وجودي؟!
قلنا: صحيح أنّهما يختلفان من حيث المفهوم إلا أنّهما متّحدان خارجاً في مصداق واحد وهو الصلاة.
وعليه، فإنّ الثمرة باقية؛ حيث تصحّ الصلاة بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة، ولا تصح بناءً على وجوب مطلق المقدمة، والله العالم.