الدرس 132 _ المقصد الأول في الاوامر 64
الإنصاف: بعد أن أجبنا على الوجوه الثلاثة لبيان استحالة رجوع القيد إلى الهيئة، نقول: إنّ التعليق في الجملة الشرطية؛ كما في (إذا جاء زيد فأكرمه)، هو تعليق جملة على جملة؛ فحاصل مجموع الجملة الثانية معلّق على الجملة الأولى؛ أي المعلق على المجيء هو وجوب الإكرام المنتسب إلى الفاعل؛ أي المحمول المنتسب إلى الفاعل وليس المحمول وحده؛ يعني ليس المنشأ بما هو معنى أفرادي، وهو المحمول وحده، فلا ترد الإشكالات المتقدمة.
تقيد المادة لبّاً: ما مرّ هو تمام الكلام فيما يعود لاستحالة رجوع القيد إلى الهيئة، وأمّا القضية الثانية؛ أي لزوم رجوع القيد إلى المادة لبّاً، فيقول صاحب الكفاية R: «وأما لزوم كونه من قيود المادة لبا، فلأن العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه، فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه أصلاً، لا كلام على الثاني. وعلى الأول: فإما أن يكون ذاك الشيء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه، أو على تقدير خاص، وذلك التقدير، تارة يكون من الأمور الاختيارية، وأخرى لا يكون كذلك، وما كان من الأمور الاختيارية، قد يكون مأخوذاً فيه على نحو يكون مورداً للتكليف، وقد لا يكون كذلك، على اختلاف الأغراض الداعية إلى طلبه والأمر به، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعية، كما لا يخفى، هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل المقرر لبحثه بأدنى تفاوت، ولا يخفى ما فيه».
حاصل هذا الكلام وهو للشيخ الأنصاري R في رجوع القيد إلى المادة لبّاً، وهو أنّ الآمر حينما يلتفت إلى شيء مريداً طلبه، فإمّا أن يطلبه مطلقاً؛ حيث يكون الوجوب والواجب فعليّين، وإمّا أن يطلبه مقيداً، وهذا القيد إمّا اختياري أو لا. أمّا غير الاختياري، فلا يمكن أن يأمر به المولى، بل يكون مأخوذاً في المتعلّق على نحو مفروض الوجود. وأمّا القيد الاختياري، فإمّا أن يطلبه المولى أو لا يكون مورداً للتكليف. وعلى جميع الأحوال يكون القيد راجعاً للمادة وجداناً، ويكون طلب المولى دائماً فعلياً.
أجاب صاحب الكفاية R على هذا الكلام قائلاً: «وأما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ففيه: إنّ الشيء إذا توجه إليه، وكان موافقاً للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها، كما يمكن أن يبعث فعلاً إليه... ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الأحكام باقياً مر الليالي والأيام، إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام، كما يظهر من الأخبار المروية عن الأئمة S».
يقول الآخوند: إنّ ما أتى به الشيخ الأنصاري غير نافع؛ لأنّه بناءً على أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في نفسها؛ كما ذهب إليه البعض، يكون القيد حينها راجعاً إلى الحكم لا إلى المتعلق؛ لأنّ للقيد دخالة في المصلحة، والمصلحة قائمة في الحكم، فيكون القيد عائداً إلى الحكم.
وأمّا بناءً على أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها؛ كما عليه مشهور الإمامية وهو الحق، فتكون المصلحة قائمة في المتعلق، والقيد فيه مصلحة فيكون القيد حينئذٍ راجعاً إلى المادة، فيتمّ ما قاله الشيخ الأنصاري R.
ولكن الأحكام التابعة للمصالح في متعلقاتها هي خصوص الأحكام الواقعية الإنشائية؛ أي الأحكام الواقعية بما هي واقعية. وأمّا الأحكام الفعلية، فهي تابعة لما فيها من المصالح، وحينئذٍ قد يمنع من فعلية الطلب مانع، فلا يكون فعلياً بل يكون تعليقياً؛ أي يكون القيد راجعاً إلى الحكم، فلا يتمّ ما ذكره الشيخ. مثلاً: إذا كان في الشيء مصلحة تامة، فيتبعها الحكم الواقعي الإنشائي، ولكن الحكم الفعلي قد يتخلّف عنها؛ كما في موارد قيام الأمارات أو الأصول على خلاف الأحكام الواقعية، وكذلك الحال في أوّل البعثة؛ فكم من واجب كانت فيه مصلحة تامة، وكان الحكم مجعولاً على طبقها، ومع ذلك كان للنبي C مانع عن إظهاره؟ والمقام من هذا القبيل؛ فإنّ الشيء قد يكون فيه مصلحة تامة ويتبعها الحكم الواقعي، ولكن يوجد مانع عند الآمر عن إنشاء الطلب المطلق الفعلي، فينشأ الطلب من الآن مشروطاً بشرط يصير فعلياً عند حصول الشرط.
لكن الإنصاف: أنّ الأحكام الواقعية لمّا كانت تابعة للملاكات في متعلقاتها، فنعلم حينئذٍ أنّ الطلب الواقعي ليس معلّقاً على الشرط. ومع العلم بذلك يكون الحكم فعلياً، وهو المطلوب، ولا مجال معه لجعل الحكم الظاهري على خلافه؛ للزوم التناقض؛ لأنّ الحكم الواقعي إنّما لا ينافي الحكم الظاهري ما دام الجهل بالحكم الواقعي، وأمّا مع العلم به، فلا. وقد تقدّم الكلام بالتفصيل عن كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري.
نعم، الذي يرد على الشيخ في مسألة رجوع القيد إلى المادة لبّاً أمران:
الأمر الأوّل: أنّه ما مراده من الطلب الوارد في كلامه؟
فإن كان المراد منه هو الشوق المؤكّد الذي هو عبارة عن صفة نفسانية لها مقدمات غير اختيارية، فمن الواضح حينئذٍ رجوع القيد إلى المشتاق إليه، ولا يرجع إلى الشوق المؤكّد؛ لأنّه صفة نفسانية موجودة فعلاً، فلا يعلّق على شيء؛ إذ الشوق إمّا أن يكون موجوداً أو لا، فلا يقبل التعليق. إلا أنّ رجوع القيد إلى المشتاق إليه لا ينفع الشيخ؛ لأنّ الشوق المؤكّد الفعلي ليس حكماً شرعياً حتى يقال أنّ الحكم فعلي أو غير فعلي.
وإن كان مراده من الطلب الوارد في كلامه إنشاء الحكم وجعله المنشأ الذي هو الحكم، فلا ينفعه أيضاً؛ لأنّ الجعل والإنشاء غير قابلين للتعليق؛ لأنّ الجعل إمّا موجود أو غير موجود، والكلام معه في الحكم؛ أي المنشأ والمعتبر.
وإن كان مراده بالطلب هو الجعل؛ أي المنشأ والمعتبر كما هو الأقرب والمعبّر عنه بالوجوب تارةً، وبالإلزام أخرى، فالإنصاف أنّه قابل للتعليق كما أنّه قابل للإطلاق، ويختلف الحال بحسب اختلاف الموارد، فلا موجب لجعله فعلياً دائماً.