الدرس22 _اوقات الفرائض والنوافل 2
الأمر الثاني الذي وقع فيه الخلاف: هو أنَّ المشهور بين الأعلام في الوقتَيْن اللذَيْن لكلِّ صلاة : أنَّ الأوَّل منهما للفضيلة، والثاني للإجزاء.
وذهب الشيخان، وابن أبي عقيل، وأبو الصلاح الحلبي، وابن البرَّاج، وبعض متأخِرِي المتأخِّرِين، كالمحدِّث الكاشاني، وصاحب الحدائق (رحمهم الله جميعا): إلى أنَّ الوقت الأوَّل للمختار، والثاني للمضطر، وذَوِي الأعذار.
وأمَّا موارد الضرورة، والعذر: فقد ذكرها الشيخ في المبسوط قال: «والعذر أربعة: السفر، والمطر، والمرض، وشُغُل يضرّ تركه بدينه أو دنياه، والضرورة خمسة: الكافر يُسلِم، والصبي يبلُغ، والحائض تطهُر، والمجنون يَفِيق، والمغمى عليه يَفِيق».
أقول: قد استدلّ في الحدائق لمختاره من كون الوقت الأوَّل للمختار، والثاني للمضطر وذوي الأعذار، بمعنى أنَّه لا يجوز له التأخير إلى الوقت الثاني، ولكن لو عصى وأخر، وقعت الصَّلاة أداءً بعدَّةِ من الأخبار:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث « قَالَ: لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتَانِ، وأَوَّلُ الْوَقْتَيْن أَفْضَلُهما، ولَاْ ينبغي تأخيرُ ذلك عمداً، ولكنَّه وقت من شُغِل، أو نسي، أو سها، أو نام، وليس لأحدٍ أن يجعل آخر الوقتَيْن وقتاً إلاَّ من عذرٍ، أو علةٍ»[i]f141.
ومنها: صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: سمعته يقول: لكلّ صلاةٍ وقتان، وأوّل الوقت أفضله، وليس لأحدٍ أن يجعل آخر الوقتَيْن وقتاً إلاَّ في عُذْرٍ من غير علَّةٍ»[ii]f142.
وجه الاستدلال بها: أن قوله عليه السلام: «وليس لأحدٍ أن يجعل آخر الوقتَيْن...» إشارة إلى أنّ الوقت الثاني وقت اضطراري، ولا يجوز التأخير عمداً إليه، بل هو وقت لِمَن نسيَ أو سها أو نامَ، ونحو ذلك.
وأمَّا قوله في صدر الروايتَيْن «لكلِّ صلاة وقتان، وأوَّل الوقتَيْن أفضلهما» على الرواية الأولى، و«أفضله» على الرواية الثانية، أي: إنّ أوّل الوقت الأوّل أفضل من آخر الوقت الأوّل، وكأنّ الوقت الأوّل له وقتان: أولٌ، وثانٍ، لا أنّ الوقت الأوّل بأوّله وآخره أفضل من الوقت الثاني، حتّى تكون دليلاً للمشهور باعتبار اشتراكهما في أصل الفضل، إلاَّ أنّ الوقت الأوّل أفضل وأرجح، ويكون الإتيان بالصّلاة اختياراً في الوقت مجزياً، هذا حاصل ما يوجَّه به الاستدلال لصاحب الحدائق، وغيره، ممَّن ذهب إلى أنّ الوقت الثاني للاضطرار.
والإنصاف: أنَّ المفهوم عرفاً من صدر الروايتَيْن أي: قوله عليه السلام: «وأوّل الوقتَيْن أفضلهما» هو ما فهمه المشهور، وهو أنَّ الوقت الّأول بأوّله وآخره أفضل من الوقت الثاني.
وقضية ذلك: مشاركة الوقت الأخير للأوّل في أصل كون التقديم راجحاً، ومعنى ذلك هو جواز التأخير عمداً إلى الوقت الثاني، وإن كان ذلك مرجوحاً، بمعنى أن الصلاة تصبح أقلّ ثواباً.
ويؤيِّد ذلك بل يدلّ عليه: قوله عليه السلام في صحيحة عبد الله بن سنان الأولى: «ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً»، حيث ذكرنا في أكثر من مناسبة أنّ كلمة «لا ينبغي» ظاهرة في الكراهة، لا في الحرمة.
وعليه، فلا يحرم التأخير إلى الوقت الثاني عمداً وإنَّما يُكرَه، ويكون قوله عليه السلام في آخر الرواية: «إلاّ من عُذْرٍ أو علةٍ» استثناء من الكراهة، يعني يكره التأخير، إلاَّ مَنْ كان معذوراً، أو به علّة، فلا يكرَه له ذلك.
نعم، لا يوجد في صحيحة عبد الله بن سنان الثانية كلمة: «لا ينبغي»، فيكون قوله عليه السلام: «وليس لأحد أن يجعل...» ظاهراً في الحرمة، فيتعارض الصدر حينئذٍ الظاهر في كراهيّة التأخير مع الذَيْل، والمعروف بينهم: أن الذَيْل قرينة على الصَّدر، فيكون هو المقدَّم.
والإنصاف: أنَّه لولا الروايات الكثيرة الدَّالة بالصراحة على جواز التأخير عمداً لقلنا بحرمة التأخير، ولكن لأجل تلك الروايات التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى نحمل النهي هنا على الكراهة.
ومن جملة الروايات التي ذكرها صاحب الحدائق مرسلة الصدوق «قال: قال الصادق عليه السلام: أوّله رضوان الله، وآخره عفو الله، والعفو لا يكون إلاَّ عن ذنب»[iii]f143.
وفيه أوَّلاً: أنَّه ضعيف السند بالإرسال، ولا فرق في عدم العمل بمراسيل الصدوق بين أن يقول الصدوق: رُوي، مبني للمجهول، أو (قال).
لا يقال: إذا أسنده مباشرة للإمام عليه السلام يكون حجّة، لأنّه لو لم يعتقد أنّ الرواية صادرة لَمَا أتى بها بعنوان: (قال).
فإنَّه يُقال: إنّ اعتقاد الشيخ الصدوق رحمه الله بصدور الرواية لقرائن ثبتت عنده لا يكون حجّة على الآخرين، إذ لعلّ القرائن التي اعتمد عليها لو وصلت إلينا لَمَا أوجبت الظنّ فضلاً عن القطع.
وثانياً: مع قطع النظر عن ضعف السند، وعن احتمال أن يكون قوله: (والعفو لا يكون إلاّ عن ذنب) من كلام الصدوق، لا من تتمة كلام الإمام عليه السلام : فإنّ المراد منه المبالغة في مرجوحيّة التأخير، لا المعصية التي يستحقّ عليها العقاب، كما ورد في بعض الأخبار المتقدِّمة أنّ في ترك النافلة معصية.
وعليه، فالعفو حينئذٍ يكون لترك الأولى، كما في قوله تعالى: « عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ...﴾ ]التوبة: 43[ على القول بأنه عتاب لمخالفة الأولى.
وقد ردّه السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء حيث قال: «ولا يمتنع أن يكون المقصود به التعظيم والملاطفة في المخاطبة. لأن أحدنا قد يقول لغيره إذا خاطبه: أرأيت رحمك الله وغفر الله لك. وهو لا يقصد إلى الاستصفاح له عن عقاب ذنوبه».
وقد يطلق الذنب أيضاً على ترك الأولى، كما في قوله تعالى: « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ...﴾ ]الفتح: 2[ بناءً على القول بامكانية حصول ترك الأولى من النبي صلى الله عليه وآله.
وقد أوّل الآية السيد المرتضى بوجوه أقربها أن المراد بقوله: « ذَنبِكَ ﴾ الذنوب إليك لأن الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معاً.
فتكون المغفرة هي الإزالة والفسخ والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكّة وصدّهم له عن المسجد الحرام.
وهو مطابق لظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضاً في الفتح ووجهاً له، لأن المغفرة للذنوب ليست غرضاً في الفتح.
وأما قوله تعالى: « مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك وما تأخر.
انتهى ما اخترناه من كلامه أعلى الله مقامه.