الدرس 6 _ مقدمات علم الأصول 6
والإنصاف: يقتضي نفي كون موضوع علم الأصول جامعاً مقولياً، أو الأدلَّة الأربعة بما هي حجة، أو الأدلَّة الأربعة بما هي هي، وإنَّما موضوعه: (كل ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، أو ما يُنتهى إليه في مقام العمل)، وهذا كلّي انتزاعي لا كلّي مقولي.
المبحث الخامس:تعريف صاحب الكفاية لعلم الأصول
ذكرنا في المبحث السابق ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنَّ موضوع علم الأصول عبارة عن «الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المشتَّتة»، ثمَّ أيَّد ما ذكره بتعريف المشهور لعلم الأصول، فقال (رحمه الله): «ويؤيد ذلك تعريف الأصول، بأنَّه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية)، وإن كان الأولى تعريفه بأنَّه (صناعة يُعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل)».
أقول: وجه التأييد أنَّ الألف واللام بـــــ «القواعد» للاستغراق؛ أي مطلق القواعد الممهَّدة، سواء كان موضوعها الأدلَّة الأربعة أم غيرها، وهذا يتناسب مع ما ذهب إليه من أنَّ الموضوع جامع مقولي ينطبق على موضوعات مسائل العلم. وإنَّما جعله مؤيِّداً؛ لاحتمال أن تكون الألف واللام في «القواعد» عهدية؛ أي ناظرة لما عُهِد من الكلام عن خصوص الأدلَّة الأربعة.
وأمّا عدوله عن تعريف المشهور لعلم الأصول بلفظ الأولوية؛ حيث قال: «وإن كان الأولى تعريفه...»؛ فلورود الإشكالات على تعريفهم:
الإشكال الأوّل: علم الأصول عبارة عن القواعد نفسها، لا العلم بها كما جاء في تعريفهم، إلا أنَّه يُحتمل أن يكون تعبيرهم بـــــ «العلم» من باب أنَّ الفائدة من هذه القواعد لا تكون إلا بالعلم بها؛ إذ الاقتدار على الاستنباط متوقف على العلم بهذه القواعد، لا على مجرّد وجودها أو تدوينها في العلم. وفراراً من ذلك، أراح صاحب الكفاية نفسه بعدم أخذ العلم قيداً في التعريف.
الإشكال الثاني: «الممهَّدة» على قول المشهور تعني المحصَّلة فعلاً لاستنباط الأحكام، إلا أنَّه لمّا لم يشترط فعلية الاستنباط في المسألة الأصولية؛ حيث يكتفى بشأنيّتها لذلك، عبَّر بـــــ «يمكن أنَّ تقع».
الإشكال الثالث: خروج مبحث الأصول العملية الشرعية والعقلية، ومبحث الانسداد على الحكومة، عن تعريف المشهور.
أمّا الأصول الشرعية من البراءة الشرعية والاحتياط الشرعي والاستصحاب، فهي بنفسها أحكام ظاهرية، فلا تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية، وإنَّما تطبّق على مواردها لتنتج أحكاماً فرعية جزئية. ومنه يتضح الفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية، ولذا ذكرت فروقات بينهما.
الفروقات بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية:
-الفارق الأوَّل: المسألة الأصولية؛ مثل حجية خبر الثقة، قاعدة كلّية، إذا ضممناها لصغرى خبر زرارة الثقة كصحيحه عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود». لأنتجت حكماً فرعياً كلّياً، فإنَّ النتيجة عدم إعادة كلّ صلاة يحصل فيها خلل في غير هذه الخمسة.
أمّا القاعدة الفقهية؛ مثل قاعدة (لا تعاد)، فهي قاعدة كلّية أيضاً إذا طبَّقناها على صلاة زيد التي حصل فيها خلل في غير الخمسة المذكورة في صحيح زرارة، لأنتجت حكماً فرعياً جزئياً، وهو صحّة صلاة زيد.
الفارق الثاني: نتيجة المسألة الأصولية الواقعة كبرى في قياس الاستنباط تغاير الحكم المستنبَط منها؛ كحجّية خبر الثقة، فإنَّها مغايرة لعدم إعادة كلّ صلاة يحصل فيها خلل في غير الخمسة في المثال السابق.
أمّا نتيجة القاعدة الفقهية، فهي مطابقة لمضمونها، فإنَّ مضمون صحيح زرارة المتقدّم مطابق لصحة صلاة زيد وعدم إعادتها، لفرض أنَّ الخلل الحاصل في غير الخمسة.
وبهذا يتضح الفرق بين الاستنباط والتطبيق، فالاستنباط ضمّ كبرى أصولية إلى صغرى؛ حيث ينتج حكماً فرعياً كلياً مغايراً لمضمون الكبرى، بينما التطبيق عبارة عن ضمِّ كبرى فقهية إلى مصداق من مصاديقها؛ حيث ينتج حكماً فرعياً جزئياً موافقاً لمضمونها.
الفارق الثالث: ما نسب إلى النائيني (رحمه الله) من أنَّ المسألة الأصولية لا يمكن إلقاؤها إلى المكلف ليستنبط من خلالها، بخلاف القاعدة الفقهية؛ فإنَّ مثل قاعدة (لا تعاد) يمكن للمكلف أن يطبقها على مصاديقها.
وفيه: أنَّ هذا الفارق غير مطّرد؛ فإنَّا نجد بعض القواعد الفقهية ممّا يصعب على المكلّف أن يطبِّقها على مصاديقها؛ مثل قاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده)، وقاعدة (كل شرط خالف كتاب الله فاطرحه)... فإنَّه يصعب على المكلف تمييز الشرط الموافق للكتاب من الشرط المخالف له.
الفارق الرابع: وهو فارق بين الأصول العملية من المسائل الأصولية، والقواعد الفقهية؛ فإنَّ الرجوع إلى الأصول العلمية يكون بعد العجز عن الدليل الاجتهادي، ولا يشترط في الرجوع إلى القاعدة الفقهية ذلك.
نرجع إلى الإشكال الثالث، فبعد بيان كيفية خروج الأصول الشرعية عن المسائل الأصولية بناءً على تعريف المشهور، يبقى توضيح خروج كلّ من الأصول العقلية والانسداد على الحكومة.
أمّا الأصول العقلية، فلا يوجد فيها حكم شرعي أصلاً. وأمّا الانسداد على الحكومة، فكذلك؛ إذ لا يوجد فيه حكم شرعي، وإنَّما يتنــــزل العقل فيه من الاحتياط التام إلى الاحتياط الناقص، حيث لا يجب الاحتياط التام، أو لا يمكن لتعذره أو تعسّره. نعم بناءً على الكشف أي إنَّ الشارع جعل مطلق الظنّ حجّة إلا المحرَّم منه؛ كالظن الحاصل من القياس والاستحسان ونحوهما يقع في طريق الاستنباط، إلا أنَّ الأقوى عندنا، بناءً على تماميّة مقدّمات الانسداد، هو القول بالحكومة لا الكشف، وتفصيله في البحث المختص به، فارتقبه واصطبر. ولأجل خروج هذه الأمور أضاف صاحب الكفاية على التعريف قوله: «... أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل».
وقد حاول السيد الخوئي (رحمه الله) الإجابة على هذا الإشكال من خلال توسعة مفهوم الاستنباط ليطال كلّ ما فيه تعذير وتنجيز. وفيه: لمّا كان مفهوم الاستنباط واضحاً، وهو الاستخراج فحسب، فتبقى التوسعة المذكورة مجرَّد دعوى تبرّعية لا دليل عليها. ودفعاً لذلك، فنحن مع ما أضافه صاحب الكفاية بقوله: «... أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل»، فإنَّ هذه الإضافة شملت المسائل غير الاستنباطية.
تعريف الميرزا النائيني (رحمه الله):
عرَّف الميرزا النائيني (رحمه الله) علم الأصول بأنَّه: «العلم بالكبريات التي إذا انضمت إلى صغرياتها لأنتجت حكماً فرعياً كلياً».
وفيه: أنّ هذه الضابطة للعلم منخرمة بخروج العديد من المسائل الأصولية التي وإن شكَّلت بنفسها كبريات أصولية، إلا أنَّ انضمامها وحدها إلى الصغريات لا ينتج شيئاً، وإنَّما تحتاج إلى انضمام كبرى أخرى لإنتاج الأحكام، وهذا ما يخرجها بناءً على تعريف النائيني عن مسائل علم الأصول. وتوضيحه: لو جئنا إلى مباحث الأوامر والنواهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفاهيم، لوجدناها بنفسها غير منتجة لولا ضميمة (حجّية الظواهر)؛ إذ لا فائدة من وراء ظهور الأمر في الوجوب، وظهور النهي في الحرمة، إذا لم تُضمّ إليها كبرى حجية الظواهر. وكذا مسألة اجتماع الأمر والنهي، فعلى القول بالاستحالة تدخل في كبرى باب التعارض، وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى التزاحم، وهما مسألتان أصوليّتان لولاهما لم يستنبط الحكم الشرعي.
وقد حاول السيد الخوئي تجنُّب ما أُشكل على أستاذه النائيني من خلال إخراج حجّية الظواهر عن مسائل علم الأصول، معتذراً بأنَّها مسألة تمَّ التسالم عليها، وإنَّما الخلاف في بعض التفاصيل التي تأتي في محلها إن شاء الله تعالى. أمّا أصل حجية الظهور، فمتسالم عليها، ممّا يخرجها عن مسائل علم الأصول. وفيه: أوّلاً: أنَّ التسالم لا يخرجها عن كونها أصولية؛ إذ ليس الملاك في أصوليَّتها وقوع الخلاف فيها. وبالجملة، إنَّ ما ذكره مجرد دعوى تحتاج إلى إثبات. وثانياً: لو سلّمنا بخروج حجية الظواهر عن المسائل الأصولية، إلا أنَّه مع ذلك نجد أنَّ بعض القواعد الأصوليَّة تحتاج إلى كبرى أصولية أخرى؛ مثلاً ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فلو كانت صيغة الأمر واردة في خبر الواحد، لم يكفِ القول بظهورها في ذلك ما لم نضمّ إليها حجّية خبر الواحد، ومن المعلوم أنَّ حجّية خبر الواحد من المسائل الأصولية. ومهما يكن فالإشكال باقٍ.