الدرس 25 _ الاجتهاد والتقليد 25
ثم أنه ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: قد عرفت أن مسألة التقليد مبنيّة على الأمر الارتكازية الفطري، وهو رجوع الجاهل إلى العالم. وبناءً عليه، فقد يقال: إنه لا فائدة في بحث الفقيه بأنه يجوز التقليد، وقوله ذلك يكون إرشاداً لحكم العقل الفطري بجواز التقليد.
فإنه يقال: إن الارتكاز العقلي على لزوم رجوع الجاهل إلى العالِم إنما هو بالجملة لأنه دليل لبّي، فلا يستكشف منه الخصوصيات المحتملة دخلها في المرجع، مثل الحياة والإيمان والعدالة والأعلمية والذكورية والحرية ونحوها، فلا يستكشف ذلك لا إثباتاً ولا نفياً.
ومن هنا، كانت الحاجة لرجوع المقلّد في هذه الخصوصيات إلى العالِم إذا شك في اعتبارها في المرجع كلّاً أو بعضاً، ولا بدّ له من الرجوع أوّلاً إلى من هو جامع لجميع ما احتمل دخله في المرجع من الصفات، فيفتيه العالِم بها بما استقر عليه رأيه بمقتضى استفادته من الأدلة الشرعية إطلاقاً وتقييداً، والله العالم.
الأمر الثاني: إن وجوب التقليد وجوب طريقي لا شرطي لصحّة العمل، بداهة أنه لا مدخلية للتقليد في صحّة عمل العامي بل يكفي في صحّته واقعاً مجرّد كونه مطابقاً للواقع ولو من باب الاتفاق، كما يكفي في صحّته ظاهراً مجرّد اتفاق كونه على وفق رأي من وجب عليه تقليده تعييناً ولو لم يكن حين العمل ملتفتاً إلى فتوى من وجب عليه تقليده، فقولهم بوجوب التقليد على العامي إنما هو من جهة كونه طريقاً له إلى الأحكام الواقعية، وأنه بدونه لا يتمكن الجاهل الملتفت من قصد التقرب في عباداته.
الأمر الثالث: اعلم أن موضوع الحجّية في باب الفتوى إنما هو رأي المجتهد بما هو طريق إلى الواقع، وليس الموضوع للحجّية نفس الفتوى والإخبار بالحكم، بل حجّية فتواه في حق المقلّد إنما هي من باب كونها طريقاً إلى رأيه واعتقاده الذي هو -أي الرأي والاعتقاد- طريق إلى الواقع.
ومن هنا، يصّح للمقلّد الاعتماد في مقام العمل على رأيه المستكشف بطريق آخر غير فتواه، كما لو علم أن مبناه في المسألة الأصولية هي اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاص، فلو أفتى بوجوب شيء في مسألة ليس له الإتيان بضدّه، ولا يكاد يصّح منه أيضاً، إذا كان عبادياً ولو لم يكن له فتوى في تلك المسألة أصلاً. مثلاً: لو أفتى الفقيه بوجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً، ودخل زيد مثلاً إلى المسجد ورأى النجاسة، فليس له الإتيان حينئذٍ بالصلاة، ولا تصّح منه لو أتى بها وإن لم يفت الفقيه بعدم صحّة الصلاة في تلك الحالة.
وممّا ذكرنا: يتضح لك الفرق بين باب حجّية الفتوى وباب حجّية الخبر، فإن موضوع الحجّية في باب الخبر هو نفس الاخبار بما هو حاكٍ عن الواقع، ولا مدخل لفهم المخبر واعتقاده في موضوع الحجّية. وهذا بخلاف باب الفتوى، فإن موضوع الحجّية على العامّي إنما هو رأي المفتي واعتقاده، والله العالم.
هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من المسائل الثلاث المشار إليها.