الدرس 183 _ تنبيهات الإستصحاب 4
وأما الاستصحاب في مؤديات الأصول المحرزة كاستصحاب ما كان محرَزاً بالاستصحاب إذا شكّ في بقاء المستصحب، وكذا استصحاب مؤديات الأصول الغير محرِزة كقاعدة الحليّة وقاعدة الطهارة: فالإنصاف أنه لا يجري.
أما عدم جريانه في مؤديات الأصول المحرِزة كالاستصحاب: فلأنه لا أثر لجريانه، لأنّ المجعول في الأصول المحرِزة بنفسه يستمرّ إلى انكشاف الخلاف والعلم بضدّ المؤدى أو نقيضه، فإنّ العلم بالخلاف إنما أخذ غاية لمطلق الأصول، فالشكّ في بقاء مؤدى الأصل قد ألغاه الشارع بنفس التعبّد بالأصل فلا معنى لاستصحابه. مثلاً إذا استصحب الحكم في زمانٍ ثمّ شكّ في بقاء الحكم المستصحب، فالتعبّد ببقاء المستصحب في زمان الشكّ قد ثبت من الزمان السابق وهو زمان جريان الاستصحاب لأن الحكم الاستصحابي كان غايته العلم بانتقاض الحالة السابقة فلا معنى للتعبّد باستصحاب بقاء المستصحب ثانياً. وبعبارة أخرى إنّ معنى الاستصحاب هو بقاء الحكم واستمراره إلى حين اليقين بالانتقاض -لقوله (عليه السلام): «ولكن انقضه بيقين آخر»- فمع عدم اليقين بالخلاف لا وجداناً ولا تعبداً كان الحكم المجعول بالاستصحاب باقياً، ومع بقائه لا يبقى المجال لإجراء الاستصحاب بالنسبة إلى مؤدياتها، لأنّ الغرض من استصحابها إنما هو إثبات الحكم الظاهري وهو حاصلٌ بالاستصحاب السابق الجاري أولاً.
هذا هو السرّ في عدم جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول المحرِزة، وليس عدم جريانه من جهة عدم إحراز ثبوت المستصحب فيها، إذ لا قصور في قيامه مقام القطع الطريقي كما تقدم، فلا مجال للتوهم من هذه الجهة.
وأما عدم جريان الاستصحاب في مؤدى الأصول الغير المحرِزة: كقاعدة الطهارة وقاعدة الحلّ ونحوهما -وإنما كانتا غير محرِزتين بلحاظ عدم كون مؤدياتها إلا مجرّد إثبات الطهارة والحليّة الظاهرية للشيء في ظرف الشكّ فيهما، فلا نظر فيهما إلى إثبات أنّ المؤدى هو الواقع- فواضحٌ، لانتفاء الشكّ للقطع ببقاء الحكم الظاهري المجعول في مواردها مادام بقاء الشكّ وعدم حصول الغاية التي هي العلم بالخلاف؛ وإن شئت قلت أنه في كل زمانٍ يشكّ في الطهارة والحلية فأصالة الطهارة والحلّ تجري ولا تصل النوبة إلى استصحابها.
وبالجملة فإنّ مؤدى أصالة الطهارة والحلّ ليس إلا البناء على طهارة الشيء وحليّته في مرحلة الظاهر مع الشكّ فيها، وهذا المعنى لا يمكن استصحابه، لأنّ الطهارة الظاهرية موضوعها نفس الشكّ في الطهارة ولا يمكن استصحاب الأثر -أي الطهارة- المترتب على نفس الشكّ فإنه لا معنى لإحراز ما هو محرَز بالوجدان أو بالتعبّد، فمع جريان أصالة الطهارة والحلية لا تصل النوبة إلى استصحابها وهذا لا ينافي حكومة الاستصحاب على هذه الأصول، لأنّ الاستصحاب إنما يكون حاكماً عليها إذا جرى، والمفروض في المقام أنه غير جارٍ لعدم الأثر له. والله العالِم.
[التنبيه الثالث]
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): إنّه لا فرق في المتيقّن السابق بين أن يكون خصوص أحد الأحكام، أو ما يشترك بين الاثنين منها، أو الأزيد من أمر عام. فإن كان الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه وارتفاعه، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام ...*
التنبيه الثالث: معقودٌ للكام عن استصحاب الكلّي، إذ المستصحب إما أن يكون شخصياً أو كلياً.
وعلى الأول (شخصياً): إما أن يكون فرداً معيناً قد شُكّ في بقائه أو يكون فرداً مردداً من طبيعةٍ واحدة أو طبيعتين أو طبائع.
وعلى الثاني (كلياً): فهو على أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد المعين أو الفرد المردد ويشكّ في بقائه للشكّ في بقاء الفرد، كأن يعلم مثلاً بوجود زيد في الدار فيعلم بوجود الإنسان فيها، ثمّ يشكّ في بقاء الإنسان للشكّ في بقاء زيد.
ولا يخفى عليك: أنه قد ذكرنا سابقاً أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود أفراده، وقد عرفت أيضاً أن الكلّي الطبيعي بعروض التشخصات عليه يتحصّص في الخارج بحصصٍ متعددة بحيث يصير مع كلّ شخصٍ حصته من الطبيعي غير الحصة الأخرى مع شخص فردٍ آخر كما اشتهر بأنّ مع كلّ فردٍ أبٌ من الطبيعي لأنّ نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الآباء إلى الأولاد، لا كالأب الواحد.
ثمّ إنّ الأثر الشرعي: قد يكون للكلّ بلا دخلٍ للخصوصية فيه كحرمة مسّ كتابة القرآن وعدم جواز الدخول في الصلاة بالنسبة إلى الحدث الأكبر أو الأصغر، وقد يكون الأثر للخصوصية لا للكلّي كحرمة المكث في المسجد والعبور من المسجدين الشريفين -المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف- فإنهما من آثار خصوص الجنابة والحيض والنفاس، لا مطلق الحدث، وعليه فجريان الاستصحاب تابعٌ للأثر، فإذا كان الشخص جنباً ثمّ شكّ في ارتفاع الجنابة وهو يريد الدخول في الصلاة أو مسّ كتابة القرآن فلا يصحّ له استصحاب الجنابة لعدم ترتب الأثر على خصوصيتها، بل يُجري استصحاب الحدث الكلّي الجامع بين الأكبر والأصغر. وإن أراد الدخول في المسجد والبقاء فيه فلا معنى لاستصحاب الحدث لعدم ترتب الحرمة على الحدث الكلّي، بل لا بدّ من استصحاب خصوصية الجنابة أو الحيض.
نعم إذا كان الأثر الشرعي مترتباً على كلّ من الفرد الكلّي فيجري الاستصحاب في كلّ منهما.
القسم الثاني: أن يعلم بوجود الكلّي في ضمن فردٍ مرددٍ بين فردين يعلم بزوال أحدهما بعينه على تقدير حدوثه، وببقاء الآخر على تقدير حدوثه، فيشكّ لأجل ذلك في بقاء الكلّي لاحتمال حدوثه في طويل العمر، كأن يعلم بوجود الحيوان في فردٍ مرددٍ بين البقّة والفيل، ثمّ علم بعد ثلاثة أيام بأنه إن كان الموجود هو الفيل فهو باقٍ، وإن كان البقّة فهو زائلٌ، فحينئذٍ يشكّ في بقاء الحيوان. ومثاله في الحكم الشرعي: ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني فتوضأنا، فنعلم أنه لو كان كان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع، ولو كان هو الأكبر فقد بقي، وكذا لو اغتسلنا في المثال فنعلم أنه لو كان الحدث هو الأكبر فقد ارتفع، وإن كان هو الأصغر فقد بقي لعدم ارتفاعه بالغسل، فنجري الاستصحاب في الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ونحكم بترتب الأثر كحرمة مسّ الكتاب المجيد وعدم جواز الدخول في الصلاة.
أما القسم الثالث فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.