الدرس 165 _ الإستصحاب 26
لا زال الكلام فيما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه الله) في «التأمل» على صحيحة زرارة الثالثة.
ويَرِد عليه: أنّ حمل «اليقين» في الصحيحة على اليقين بالبراءة والأخذ بالوظيفة المقررة في الشكّ، خلاف الظاهر جداً.
وتوضيحه: أنّ الإمام (عليه السلام) علّمنا كيفية اليقين بالبراءة والأخذ بالوظيفة المقررة عند الشكّ، بقوله (عليه السلام) في موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال له: «يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين، متى ما شككت فخذ بالأكثر، فإذا سلمت فأتم ما ظننت أنك نقصت»[1]. وفي رواية أخرى لعمار بن موسى الساباطي قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شيء من السهو في الصلاة، فقال: ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟ قلت: بلى، قال: إذا سهوت فابن على الأكثر فإذا فرغت وسلمت فقم فصل ما ظننت أنك نقصت، فان كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شيء، وإن ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت»[2]. وكذا غيرها من الروايات.
وعليه: فاليقين بالبراءة يكون بالبناء على الأكثر ثمّ الإتيان بركعة أخرى منفصلة، فإنه حينئذٍ يتيقن ببراءة ذمته، إذ على تقدير الإتيان بالثلاث تكون هذه الركعة متممّة لها ولا تقدح زيادة التكبير والتشهد والتسليم. وعلى تقدير الإتيان بالأربع تكون هذه الركعة نافلة، بخلاف ما إذا بنى على الأقل وأضاف ركعة متصلة، فإنه يحتمل حينئذٍ الإتيان بخمس ركعات. أو بنى على الأكثر ولم يأتِ بركعة منفصلة لاحتمال النقصان فلا يقين له بالبراءة، وعليه فقد علّمنا الإمام (عليه السلام) طريق الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة.
إذا عرفت ذلك فنقول: أنّ حمل «اليقين» في الرواية على اليقين بالبراءة خلاف الظاهر جداً، لأنّ قوله (عليه السلام): «لا ينقض اليقين بالشكّ» ظاهر في اليقين الفعلي، ومثله لا يناسب إلا الاستصحاب، ولا يتناسب مع اليقين المستفاد من أدلة الشكوك، لأنّ مثل هذا اليقين غير فعلي، بل يجب تحصيله بإتيان الوظيفة المقررة من صلاة الاحتياط بعد البناء على الأكثر خصوصاً بعد ملاحظة التعبير بالنقض الذي لا يتناسب إلا مع الاستصحاب، وملاحظة ورود هذه الجملة في الروايات السابقة الظاهرة في الاستصحاب.
وأما ما جرى عليه اصطلاحهم (عليهم السلام) من التعبير عن الوظيفة المقررة في الشكّ في عدد الركعات، فإنما هو بعنوان البناء على اليقين أو العمل على اليقين، لا بعنوان عدم نقض اليقين بالشكّ كما في المقام، وبين العنوانين فرقٌ شاسع.
وأما ما ذكر من منافاة الحمل على التقية حتى في مقام التطبيق لأجل ظهور صدر الصحيحة في إرادة صلاة الاحتياط وهو على خلاف مذهب العامّة.
ففيه: أنه لا ظهور في صدر الرواية في خلاف التقية بنحوٍ يمتنع حمل هذه الفقرة عليها، إذ يمكن للمصلي فيما إذا شكّ بين الثالثة والرابعة وقد أحرز الثالثة أن يسلّم بدون ذكر مستحبات التشهد والتسليم ثم يقوم ويكبّر للركعة بلا رفع اليدين ويقرأ فاتحة الكتاب كما يقرؤون ويكمل حينئذٍ، وعليه: فلا يكون الصدر مخالفاً للتقية.
ثمّ لو سلّم ذلك فلا يكون الحمل على التقية في مقام التطبيق بأبعد من الحمل على الوظيفة المقررة في الشكّ في عدد الركعات، بل يكون الحمل على التقية في تطبيق القاعدة على المورد أقرب من حمل اليقين فيها على تحصيل اليقين بالبراءة بإتيان الوظيفة المعهودة في الشكّ في عدد الركعات إذْ لا يلزم منه التصرّف فيما يقتضيه ظهور قوله (عليه السلام): «لا تنقض اليقين بالشكّ» لأنّ التصرّف إنما يكون ممحّضاً في التطبيق على المورد لا في أصل كبرى حرمة النقض وله نظائر كثيرة في الفقه. ففي مرسلة رفاعة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال: ذاك إلى الامام إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا فقال: يا غلام علي بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله»[3]، هذه الرواية ضعيفة بالإرسال وبسهل بن زياد.
ومن هنا أخذ جماعة من الأعلام بقوله (عليه السلام): «ذاك إلى الإمام». وحملوه على بيان الواقع واستدلّوا به على اعتبار حكم الحاكم بالهلال، مع أنّ الإمام (عليه السلام) اتّقى بقوله ذلك، حتى أنه أفطر بعد عرض العباسي عليه الإفطار مخافة ضرب عنقه، وليس ذلك الا من جهة كون التقية في تطبيق هذه الكبرى على المورد، وليست التقية في أصل الكبرى. والله العالِم.
ولكن الإنصاف في المقام: أنه يصحّ الاستدلال بهذه الحسنة على حجية الاستصحاب بلا حاجة للحمل على التقية حتى في حالة تطبيق الاستصحاب على المورد، وذلك لأنّ الاستصحاب لا يقتضي الإتيان بالركعة موصولة، فإنّ مدلول الاستصحاب هو البناء على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة.
وعليه: فإنّ نقض اليقين بالشكّ إنما يلزم إذا بنى على الإتيان بالركعة المشكوكة، فعدم نقضه بالشكّ الذي هو مفاد الاستصحاب إنما يكون بالبناء على عدم الإتيان بها، وأما الوظيفة بعد ذلك من الإتيان بها موصولة فهو مما لا يقتضيه الاستصحاب الذي هو عدم نقض اليقين بالشكّ.
نعم خصوصية المورد تقتضي الإتيان بها موصولة لأن الحكم الأولي المجعول في الشريعة هو الإتيان بركعات الصلاة موصولة، إلا أنّ النصوص الواردة في باب الشكوك بالبناء على الأكثر وإتيان ركعة الاحتياط يعيّن الوظيفة الفعلية بكونها على الكيفية المعهودة عند الإمامية.
وفي الواقع أنّ هذه النصوص مخصِصة للحكم الواقعي المجعول في الشريعة حيث أنه قبل الشك يكون الحكم الواقعي هو الإتيان بجميع الركعات متصلة بعضها بالبعض الآخر ولكن انقلب هذا الحكم في حال الشك وصارت الوظيفة هي الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة عن الركعات السابقة، وأما الاستصحاب فلا يقتضي إلا الإتيان بركعة أخرى، وأما كونها موصولة فهو خارج عن مقتضى الاستصحاب وقد دلت الروايات على الإتيان بها مفصولة وقد أشار الإمام (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: «ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يختلط أحدهما بالآخر» فإنّ المراد من عدم إدخال الشكّ في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر هو عدم وصل الركعة المشكوكة بالركعات المتيقنة، فإنّ إدخال المشكوك في المتيقن وخلط أحدهما بالآخر إنما يكون بوصل المشكوك في المتيقن وعدم الفصل بينهما.
إن قلت: أنّ هناك إشكال في جريان الاستصحاب سواء كان المقصود بالإتيان بالركعة هو الإتيان بها موصولة أو مفصولة وذلك لأنّ محل التشهد والتسليم مترتب على الركعة الرابعة التي هي بمفاد كان الناقصة -أي المتصفة بكونها رابعة- لا على وجود الرابعة بمفاد كان التامة. ومن المعلوم أنّ استصحاب عدم الإتيان بالرابعة بمفاد كان التامة لا يثبت اتّصاف الركعة المأتية بعد ذلك بكونها رابعة إلا بناءً على القول بالأصل المثبت.
والخلاصة: أنّ الاستصحاب بالنسبة إلى مفاد كان الناقصة هو ثالثية الموجود أو رابعيته لا يكون له حالة سابقة حتى يجري فيه الاستصحاب، وأما بالنسبة إلى ليس التامة وهو عدم وجود الثالثة والرابعة وإن كان يجري إلا أنه لا يترتب عليه أثر شرعي لأنّ الأثر الشرعي من وجوب التشهد والتسليم مترتب على مفاد كان الناقصة وهو لا يثبت إلا على القول بالأصل المثبت.
أما الجواب عن هذا الإشكال، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح1.
[2] وسائل الشيعة: باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح3.
[3] وسائل الشيعة: باب 57 من أبواب الخلل ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك، ح5.