الدرس 61 _ تنبيهات العلم الجمالي 7
[أصالة الاشتغال: تنبيهات العلم الإجمالي]
[التنبيه الثاني: شرطية الابتلاء بتمام الأطراف]
*قال صاحب الكفاية: الثاني: أنّه لما كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعياً للمكلف نحو تركه لو لم يكن له داعٍ آخر، ولا يكاد يكون ذلك إلاّ فيما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلاً، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل...*
اعلم أنّه قد ذكرنا سابقاً: أنّه يشترط في منجّزية العلم الإجمالي تعلّقه بتكليف فعلي على كلّ تقدير، بمعنى أنّه لو كان المعلوم بالإجمال في أيّ واحد من الطرفين أو الأطراف لكان مورد بعث الشارع أو زجره، فلو لم يكن كذلك، كما إذا كان بعض الأطراف تالفاً أو كثيراً لا ينفعل بملاقات النجس، أو كونه ممّا اضطر المكلّف إلى ارتكابه بسبب سابق على العلم الإجمالي لما كان للعلم الإجمالي تأثير في التكليف الفعلي بالاجتناب أصلاً، ولو بالنسبة إلى الطرف الآخر، لرجوع الشكّ في التكليف بالنسبة إليه إلى كونه شكّاً في أصل التكليف.
واعلم أيضاً، أنّه يشترط القدرة العقلية على كلّ من طرفي الفعل والترك في صحّة كلّ من الأمر والنهي، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق.
ومن المعروف بين الأعلام، أنّ القدرة العقليّة ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام، بل إنّما هي من شرائط حسن التكليف والخطاب، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها، والعقل يستقلّ بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن، إذا كان للمولى حكم على طبقه، وهذا لا إشكال فيه بين الأعلام.
وإنّما الكلام إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ ابتلاء المكلّف، بحيث يوجب خروجه عن تحت القدرة العادية، بنحو يعدّ المكلّف غير متمكّن منه عرفاً لا عقلاً.
فقد ذهب جماعة من الأعلام منهم الشيخ الأنصاري، والميرزا النائيني (رحمهما الله) إلى أنّه يشترط ذلك في خصوص الشبهة التحريمية، فلا يتنجّز العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء عادة، وإن كان مقدوراً له عقلاً. ويظهر ذلك أيضاً من صاحب الكفاية في المتن.
ولكنّه (أي صاحب الكفاية) في الهامش عمّم المسألة للشبهة الوجوبية أيضاً، حيث قال: «كما أنّه إذا كان فعل النهي الذي كان متعلّقاً لغرض المولى ممّا لا يكاد عادة أن يتركه العبد وأن لا يكون له داعٍ إليه لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلاً كما لا يخفى». (انتهى كلامه).
ثمّ إنّ الميرزا النائيني (رحمه الله) ذكر الوجه في اختصاص الشبهة التحريمية بعدم الخروج عن محل الابتلاء. وحاصله بشكل مختصر: «إنّ المطلوب في باب النواهي مجرّد الترك واستمرار العدم، كما أنّ المطلوب في باب الأوامر هو مجرّد الفعل ونقض العدم الأزلي، ولا إشكال في اعتبار القدرة العقلية على كلّ من طرفي الفعل والترك في صحّة كلّ من الأمر والنهي، ولكن يختصّ النهي بقيد زائد، وهو أنّه يعتبر في صحّته مضافاً إلى القدرة العقلية على الفعل المنهي عنه القدرة العادية عليه، بحيث يتمكّن المكلّف عادة من نقض العدم وفعل المنهي عنه، وذلك لاستهجان التكليف بترك ما لا يقدر على فعله عادة، فإنّ الترك حاصل بنفسه. وعليه، فلا يصحّ النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مع عدم امكان الابتلاء به عادة. نعم، يصحّ النهي عنه مقيّداً بصورة حصول القدرة العادية.
وإنّما زيد هذا القيد في خصوص النواهي ولم يعتبر في الأوامر التمكن العادي من الفعل مضافاً إلى التمكّن العقلي، لأنّ الأمر بالفعل إنّما يكون لأجل اشتمال الفعل على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع، ولا يقبح من المولى التكليف بإيجاد ما اشتمل على المصلحة بأيّ وجه أمكن، ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكّن العقلي من تحصيلها.
وأمّا النهي عن الفعل، فلا يصحّ مع عدم التمكن العادي من إيجاد المنهي عنه، لأنّ الغرض من النهي ليس إلاّ عدم حصول ما اشتمل على المفسدة، ومع عدم التمكّن العادي من فعل المنهي عنه لا تكاد تحصل المفسدة، فلا موجب للنهي عنه، بل لا يمكن، لاستهجانه عرفاً، ولكونه لغواً لا يصدر من الحكيم». (انتهى حاصل كلامه).