الدرس 106 _اصناف المستحقين للزكاة 7
ووجه الاستدلال بهذه الرِّوايات: هو أنَّ القادر على الاكتساب بما يليق بحاله، وقد ترك ذلك باختياره، مع عدم خروج وقت الاكتساب يَصْدق عليه في هذه الحالة أنَّه ذو مرَّة وقويّ، فتشمله الرِّوايات.
ولا يُعارضها ما ذكره الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في معاني الأخبار، حيث قال: «أنَّه قال: قد قَاْل رسولُ الله (ص): إنَّ الصَّدقة لا تحلُّ لغنيٍّ، ولم يقل: ولا لذي مرَّة سويّ»([1]).
ونحوه ما ذكره في الفقيه «قيل للصَّادق (عليه السلام): إنَّ النَّاس يروون عن رسول الله (ص) أنَّه قَاْل: إنَّ الصَّدقة لا تحلُّ لغنيّ ولا لذي مرَّة سويّ؟ فقَاْل: قد قَاْل: لغنيّ، ولم يقل: لذي مرَّة سويّ»([2]).
ووجه عدم المعارضة: أنَّهما ضعيفتان بالإرسال، هذا أوَّلاً.
وثانياً: أنَّ الإمام (عليه السلام) لم يظهر منه أنَّه أنكر الحكم، وإنَّما أنكر القول فقط، ومن الجائز عدم صدور هذا اللَّفظ عن النَّبيّ (ص)، ولا ينافي ذلك ثبوت الحكم.
وأمَّا وجه اقتصار الإمام (عليه السلام) على قوله: «قد قَاْل: لغنيّ، ولم يقل: لذي مرَّة سويّ»، فلعلَّه لصِدْق الغنى على ذي مرَّة، كما تشير إلى ذلك صحيحة معاوية بن وهب «قَاْل: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): يروون عنِ النَّبيّ (ص) أنَّ الصَّدقة لا تحلُّ لغنيٍّ ولا لذي مرَّة سويٍّ؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تصلح لغنيّ»([3])، حيث اقتصر الإمام (عليه السلام) على بيان الحكم، وأنَّ الصَّدقة لا تصلح للغني.
ووجه الاقتصار: هو صِدْق الغنى على ذي مرَّة سويّ، فيشمله الحكم.
ومن هنا أعرض الإمام (عليه السلام) عن صحَّة ما حُكي عن النَّبيّ (ص) إثباتاً أو نفياً.
وأمَّا ما ذهب إليه صاحب الجواهر (رحمه الله) من جواز الأخذ من الزكاة، فقد ذكر ما حاصله أنَّ صحيحة زرارة المتقدِّمة، وإن كانت ظاهرةً في المنع لقوله (عليه السلام): «لا تحلُّ الصَّدقة لغنيٍّ ولا لذي مرَّة سويٍّ، ولا لمحترف، ولا لقوي... »، إلاَّ أنَّ حسنة زرارة ظاهرة في الجواز بقرينة قوله (عليه السلام): «فتنزَّهوا عنها»، فإنَّها ظاهرة في الكراهة.
ويقتضي الجواز أيضاً صحيحة معاوية بن وهب المتقدِّمة؛ لاقتصاره فيها على ذِكْر الغني الظَّاهر في الاقتصار في المنع عليه فقط.
واستُدلَّ أيضاً: بقيام السِّيرة المستمرَّة على الإعطاء، كما عرفت عبارته سابقاً.
وفيه: أمَّا بالنِّسبة لصحيحة معاوية بن وهب، فقد عرفت وجه الاقتصار على ذكر الغنيّ فقط، فلا حاجة للإعادة.
وأمَّا قيام السِّيرة المستمرَّة في سائر الأعصار والأمصار على إعطائها للأقوياء القابلين للاكتساب، فهو: أوَّلاً لم يُحرز اتِّصال ذلك بزمن المعصوم (عليه السلام).
وثانياً: أنَّ السِّيرة دليل لُبِّيّ يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن، والقدر المتيقَّن هو في حال فوات وقت الاكتساب على المحتاجين فعلاً للزَّكاة، وقد عرفت أنَّه لا إشكال في جواز إعطائهم في هذه الحالة.
وأمَّا حسنة زرارة، حيث قال (عليه السلام): «فتنزَّهوا عنها»، فإنَّ ظهور هذه الكلمة في الكراهة ليس بأقوى من ظهور كلمة: «لا يحلّ» في الحرمة إن لم تكن هي أقوى.
وعليه، فلا يصلح قوله (عليه السلام): «فتنزهوا عنها»، قرينة على حمل: «لا يحل» على الكراهة.
والخلاصة: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من المنع، إن لم يكن هو أقوى، فلا أقلَّ من أنَّه أحوط وجوباً، والله العالم بحقائق أحكامه وهو الهادي إلى سواء السبيل.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو كان أصلها يقوم به دون النَّماء استحقّ (1)
(1) تقدَّم ذلك بشكل مفصَّل عند قولنا: «ثمَّ إنَّه بقي شيءٌ لا بدَّ من التَّنبيه عليه...»، فراجع([4]).
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وهل يأخذ تتمَّة السَّنة أو يسترسل الأخذ؟ قولان (2)
(2) المعروف بين الأعلام أنَّه لا خلاف في جواز إعطاء الزَّائد عن كفاية السَّنة إلى الفقير الذي ليس له حرفة أو صنعة لائقة بحاله، وإنَّما الخلاف في المكتسب القاصر كسبه عن مؤونة السَّنة، فهل يُقتصر في إعطائه على ما يتمِّم كفايته، أو لا يُقتصر على ذلك، بل يجوز إعطاؤه الزَّائد عن كفاية السَّنة.
وفي المدارك: «وربَّما ظهر من كلام العلاَّمة في موضع من المنتهى تحقُّق الخلاف في غيره أيضاً، فإنَّه قال: لو كان معه ما يقصر عن مؤنته ومؤنة عياله حولاً جاز له أخذ الزَّكاة لأنَّه محتاج، وقيل: لا يأخذ زائداً عن تتمَّة المؤنة حولاً، وليس بالوجه. مع أنَّه قال في موضع آخر من المنتهى: يجوز أن يُعطى الفقير ما يُغنيه وما يزيد على غناه، وهو قول علمائنا أجمع» انتهى كلام صاحب المدارك (رحمه الله).
أقول: ما حُكي عن أنَّه لا خلاف في جواز إعطاء الزَّائد عن كفاية السَّنة بالنِّسبة إلى الفقير الذي ليس له حرفة أو صنعة لائقة بحاله، ليس له دليل إلاَّ الإجماع، وقد عرفت أنَّه ليس بحُجَّة.
وعليه، فالخلاف متحقِّق في المكتسِب وغير المكتسِب، فإمَّا أن يجوز إعطاء الزَّائد عن مؤونة السَّنة في كلٍّ منهما أو لا يجوز في كلٍّ منهما، ولا يخفى عليك أنَّ المشهور هو جواز إعطاء الزَّائد في كلٍّ منهما.
وقد يُستدلّ لجواز الإعطاء إلى أن يصير غنيّاً غنًى عرفياً بجملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة سعيد بن غزوان «قَاْل: سَأَلْته: كَمْ يُعطى الرَّجل الواحد مِنَ الزَّكاة؟ قَاْل: أَعْطِه مِنَ الزَّكاة حتَّى تُغنيَه»([5]).
وقدِ اتَّفقت نُسَخ النَّجاشيّ (رحمه الله) كلّها على توثيق سعيد بن غزوان، وعدم تعرُّض العلاَّمة (رحمه الله) له لا يدلّ على أنَّ النُّسخة عنده خالية من كلمة التَّوثيق، كما أنَّ عدَّ ابن داود إياه في القسم الأوَّل من دون نقل توثيق النَّجاشيّ لا يدلّ على عدم اشتمال نسخة النَّجاشيّ الموجودة عنده على توثيق الرَّجل.
ومنها: حسنته عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَاْل: تعطيه مِنَ الزَّكاة حتَّى تُغنيَه»([6]).
([1]) الوسائل باب 8 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح9.
([2]) الوسائل باب 8 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح5.
([3]) الوسائل باب 8 من أبواب المستحقِّين للزَّكاة ح3.
([4]) ص442 من هذا المجلد.
([5]) الوسائل باب 24 من أبواب المستحقين للزكاة ح5.
([6]) الوسائل باب 24 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.