الدرس 56 _زكاة النقدين 2
الدَّليل الثَّالث: الإجماع.
وفيه أوَّلاً على فرض وجود مَنْ يدَّعي الإجماع : أنَّ الإجماع المحصَّل غيرُ حاصلٍ؛ لاحتمال الاستناد في الفتوى إلى بعض الوجوه المذكورة.
وثانياً: إنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس حجَّةً، كما عرفت في أكثر من مناسبة.
ثمَّ إنَّه قد يستدلُّ لعدم وجوب الزَّكاة فيهما بعد الهجران: برواية عليِّ بن يقطين عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «قَاْل: لا تجب الزَّكاة فيما سُبِك، قلتُ: فإنْ كان سَبَكه فِرَاراً مِنَ الزَّكاة؟ قَاْل: أَلَا ترى أنَّ المنفعة قد ذهبتْ منه، فلذلك لا يجب عليه الزَّكاة»([1])، حيث عُلِل فيها سقوط الوجوب في السَّبيكة بذهاب المنفعة، أي ما يُنْتفع به، وهو جارٍ بعينه هنا؛ لسقوطها بعد الهجران عن الانتفاع بها.
وفيه: أنَّ الرِّواية ضعيفةٌ؛ لجهالة إسماعيل بن مرَّار، ووجوده في تفسير عليِّ بن إبراهيم لا ينفع؛ لأنَّه ليس من مشايخه المباشرين، كما أنَّها ضعيفةٌ في المحاسن بالإرسال.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ الأقوى وجوب الزَّكاة فيهما للدَّليل الأوَّل، وهو الإطلاق، والله العالم.
ثمَّ إنَّه بقي عندنا أمران:
الأوَّل: إذا صار الدِّينار والدِّرْهم ممسوحَيْن بالعارض، أي مُسِحتِ السِّكَّة نتيجة كثرة الاستعمال، فهل يبقى الوجوب أم لا؟
الثَّاني: لوِ اتُّخِذ المضروب بالسِّكَّة للزِّينة، كالحِلي أو غيرها، فهل يبقى الوجوب أم لا؟
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام وجوب الزَّكاة فيهما، وإن صارا ممسوحَيْن بالعارض، وخالف في ذلك الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في الرَّوضة، فذهب إلى عدم وجوب الزَّكاة فيهما.
والإنصاف: أن يُقَال: إنَّه إذا صدق عليهما اسم الدِّينار والدِّرْهم بعد المسح من كثرة الاستعمال مثلاً، فيدخلان حينئذٍ في إطلاق الأدلَّة الدَّالَة على وجوب الزَّكاة فيهما.
وأمَّا إذا لم يصدق عليهما اسم الدِّينار والدِّرْهم، أو شككنا في الصِّدْق، فلا يمكن التمسُّك بالإطلاق حينئذٍ، أمَّا في صورة عدم الصِّدْق فواضح، وأمَّا في صورة الشَّكِّ في الصِّدْق؛ فلأنَّ التَّمسُّك بالإطلاق يكون من باب التمسُّك بالعامِّ في الشُّبهة المصداقيَّة، وهو غير صحيح.
والإنصاف: أنَّ هناك شكاً في صدق الدينار والدرهم عليهما، فلا يمكن التمسك بالإطلاق؛ لما عرفت.
ثمَّ إنَّه قد يستدلُّ للوجوب بالاستصحاب؛ باعتبار أنَّه قبل المسح كان يجب زكاتهما، فيبقى حكمهما بعد المسح.
وفيه: أنَّه من الاستصحاب التَّعليقيّ؛ باعتبار أنَّ الوجوب السَّابق لم يكن منجّزاً، بل هو مشروطٌ بحلول الحَوْل وبباقي الشَّرائط.
وعليه، فهو معلَّق عليها. وقد عرفت أنَّ الاستصحاب التَّعليقيّ لا يجري.
وثانياً: أنَّه منِ استصحاب الحكم الكُلِّيّ، وقد عرفت الإشكال فيه.
وثالثاً: أنَّ الموضوع قد تغيّر أو لم يحرز بقاؤه، فإن قلنا: بعدم صِدْق الدِّينار والدِّرْهم بعد المسح، فيكون الموضوع قد تغيَّر؛ لأنَّ الموضوع ليس هو مطلق الذَّهب والفِضَّة، بل هو عنوان الدِّينار والدِّرْهم، والمفروض أنَّه قد زال.
وأمَّا إذا شككنا في بقائها بعد المسح، فلم يُحْرَز حينئذٍ بقاء الموضوع، ولا بدَّ في الاستصحاب من إحراز الموضوع، كما هو مقرَّر في محلِّه.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا تجب الزَّكاة فيهما بعد المسح؛ لعدم إحراز بقاء عنوان الدِّينار والدِّرْهم، حتَّى يُتمسَّك بالإطلاق، كما أنَّ الاستصحاب لا يجري؛ لما عرفت من الإشكالات، والله العالم.
الأمر الثَّاني: لوِ اتُّخِذ المضروب بالسِّكة للزِّينة، كالحِلِيّ، مثل القلادة المعلَّق بها الدَّنانير وشبهها من الحِلِيّ التي استُعْمل فيها أعيان النَّقدَيْن.
فنقول: إن كان التَّزيُّن المزبور موجباً لخروجهما عن مسمَّى الدِّينار والدِّرْهم، فالأمر واضح وهو عدم وجوب الزكاة فيها. وأمّا إذا فرض أن التزين بهما لا يخرجهما عن مسمّى الدينار والدرهم فقد وقع الكلام بين الأعلام في الوجوب وعدمه، فعن الرَّوضة وشَرْحها للفاضل الأصفهاني (رحمه الله) أنَّه «لم يتغيَّر الحكم أي يجب الزَّكاة فيهما زاده الاتِّخاذ أو نقَّصه في القيمة ما دامت المعاملة به على وجهه ممكنةً؛ لإطلاق الأدلَّة والاستصحاب...».
وبالجملة فالمعروف بينهم هو الوجوب. وذهب جماعة أخرى إلى عدم الوجوب منهم المحقق الهمداني والسيد الخوئي (رحمهما الله).
أقول: لا بد من النظر في الأدلة الدالّة على الوجوب.
([1]) الوسائل باب 11 من أبواب زكاة الذَّهب والفضَّة ح2.