الدرس 134 _ المقصد الأول في الاوامر 66
وجوب المعرفة والتعلم:
قال صاحب الكفاية R: «وأما الشرط المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه مما لا شبهة فيه، ولا ارتياب: أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور، لكونه مقدمة وجوبية وأمّا على المختار لشيخنا العلامة أعلى الله مقامه فلأنه وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب، إلا أنّه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه... هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات، وأمّا المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها، حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار قبل حصول شرطه، لكنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الأحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها، إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده بالبراءة، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان، والمؤاخذة والمؤاخذة عليها بلا برهان، فافهم».
يقول: إنّ شرط الوجوب لا يجب تحصيله، وإلا لزم تحصيل الحاصل؛ لأنّ معنى كون الشرط مقدمة للوجوب هو تأخر وجود الوجوب عن وجود الشرائط؛ لأنّه علة له أو بمنزلة العلة؛ فوجود الوجوب يكشف عن وجود الشرط، ومع وجوده كيف يطلبه المولى؟! وهل هو إلا تحصيل الحاصل؟!
أمّا على مبنى الشيخ الأعظم الذي أنكر الواجب المشروط، فلا يجب تحصيله من باب أنّه أخذ مفروض الوجود، وقد عرفت ما به بلا حاجة إلى الإعادة.
ثم قال R: هذا في غير المعرفة والتعلّم من المقدمات، أمّا فيما إذا كانت المقدمة مقدّمة تُعرف بها الأحكام؛ فالمعروف أنّها غير داخلة في محل النزاع؛ إذ لا يتوقف عليها ذو المقدمة خارجاً؛ فهي ليست علة لوجود ذي المقدمة في الخارج؛ لأنّ وجوده ممكن بدونها؛ مثلاً وجوب الصلاة مع السورة المشكوكة جزئيتها لا يتوقف على العلم بجزئيتها؛ لجواز الإتيان بالصلاة المشتملة على السورة برجاء المطلوبية. نعم على القول باعتبار التمييز في العبادات بأن تميّز أجزاء العبادة الواجبة عن المستحبة، فيتوقّف حينئذٍ وجود الواجب على التعلّم إلا أنّنا ذكرنا سابقاً أنّ صحة العبادة لا تتوقف على قصد التمييز.
ثمّ المعروف بين الأعلام أنّ مقدمة العلم واجبة وإن كان ذو المقدمة مشروطاً بشيء لم يحصل بعد؛ كوجوب تعلّم الصلاة قبل دخول وقتها مع العلم أو الاطمئنان بعدم تمكنه منه بعد الوقت، والحال أنّ فعلية وجوب الصلاة مشروطة بالوقت وهو لم يدخل بعد، فمن أي باب تجب المقدمة ولا إمكانية لترشّحه من وجوب ذي المقدمة؛ لأنّه قبل الوقت ليس فعلياً، فضلاً عن أنّ ملاك مقدمة الواجب لا ينطبق عليها؛ لما تقدم من أنّ وجود ذي المقدمة ممكن بدونها؟
ذهب صاحب الكفاية إلى أنّ وجوب مقدمة العلم عقلي؛ بمعنى أنّ العقل لا يحكم بتنجز الأحكام بمجرّد احتمالها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف.
وفيه: صحيح أنّ العقل يحكم بوجوب التعلم، ولكن لا من باب تنجّز التكاليف بالاحتمال، فإنّ هذا التنجز يلزمه الاحتياط وعدم جريان الأصل النافي قبل الفحص، ولا يلزمه وجوب التعلم.
ومن الأعلام كصاحب المدارك R من ذهب إلى أنّ وجوب التعلم قبل الوقت وجوب نفسي، فيعاقب تاركه على ترك نفس التعلم وإن لم يتفق مخالفة الواقع، إلا أنّنا لم نقبل بهذا الكلام، كما سنبيّن في مبحث الأصل العملي إن شاء الله تعالى.
والإنصاف: أنّه بعد التفات الإنسان إلى أنّ هناك شريعة وأحكاماً شرعية واقعية فيها واجبات ومحرّمات، فيلزمه حينئذٍ تحصيل العلم بأحكام تلك الشريعة من باب أنّ العقل يرى أنّ ذلك من وظيفته؛ إذ يستقل بلزوم أداء الإنسان لوظيفته، ومن جملة وظيفته السؤال عن الأحكام وتعلّمها، ولولا استقلال العقل بذلك لانسدّ طريق وجوب النظر إلى معجزة مدّعي النبوة، وللزم بالتالي إفحام الأنبياء؛ فلو لم يجب النظر في معاجزهم لما كان للنبي أن يحتجّ على الإنسان بعدم تصديقه له؛ إذ للإنسان أن يقول: لم أعلم أنّك نبي، وليس للنبي أن يقول له حينئذٍ: لمَ لم تنظر في معجزتي ليظهر لك صدق مقالتي؟! لأنّ الإنسان له أن يقول: لم يجب النظر في معجزتك.
وبالجملة، فالعقل كما يستقلّ بوجوب النظر في معجزة مدعي النبوة كذلك يستقل بوجوب تعلم الأحكام والفحص عن الأدلة؛ إذ المناط واحد، وهو استقلال العقل بأنّ ذلك من وظيفة الإنسان. ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ، كما لا يختص وجوب النظر إلى المعجزة به، بل يجب ذلك قبل البلوغ إذا كان مميّزاً مراهقاً ليكون أوّل بلوغه مؤمناً مصدقاً بالنبوة، وإلا للزم أن لا يكون الإيمان واجباً عليه في أوّل البلوغ.
هذا بالنسبة إلى الإيمان، وكذلك بالنسبة إلى سائر أحكام الشريعة؛ فيجب على الصبي تعلّمها إذا لم يتمكن منه بعد البلوغ. وما قيل من أنّ الأحكام مشروطة بالبلوغ فليس المراد جميع الأحكام حتى مثل هذا الحكم العقلي المستقل، فإنّ هذا غير مشروط بالبلوغ، بل مشروط بالتمييز والالتفات مع العلم بعدم التمكّن من التعلم عند حضور وقت الواجب.
ثمّ إنّك عرفت أنّ حكم العقل بوجوب التعلم ليس نفسياً، بأن يكون العقاب على تركه وإن لم يتفق مخالفة الواقع. كما أنّه ليس واجباً غيرياً؛ لانتفاء ملاكه، مضافاً إلى أنّه لا وجوب لذي المقدمة قبل حصول الشرط حتى يسري الوجوب منه إليه.
وهل حكم العقل في المقام طريقي أم إرشادي؟ هذا ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
