الدرس 12 _ الاجتهاد والتقليد 12
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): فصل: إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل الرأي الأوّل بالأخر أو بزواله بدونه، فلا شبهة في عدم العبرة به في الأعمال اللاحقة، ولزوم إتباع الاجتهاد اللاحق مطلقاً أو الاحتياط فيها*
المعروف بين الأعلام: أنه إذا اضمحلّ الاجتهاد السابق بتبدّل الرأي بما يخالفه أو بزواله بدونه فلا شبهة في أن الأعمال اللاحقة لا بدّ فيها من إتباع الاجتهاد الثاني أو العمل بما يقتضيه الاحتياط فيها.
وأما في الأعمال السابقة الواقعة على وفق الاجتهاد الأوّل المختلّ بعض ما اعتبر في صحتها حسب الاجتهاد الثاني، فقد وقع الخلاف فيها بين الأعلام من حيث الإجزاء وعدمه.
وهذه المسألة ذكرناها بالتفصيل في مبحث الإجزاء إلّا أن الإعادة ولو بشكل مختصر لا تخلو من فائدة، وعليه: فمحلّ النزاع في المقام يقع فيما لو قام الأصل العملي الشرعي على شيء وعملنا على طبقه ثم عثرنا على آية أو رواية تخالف مقتضاه، أو عملنا بإطلاق لم نجد له مقيّداً أو بعموم لم نجد له مخصّصاً ثم وجدنا بعد ذلك رواية مقيّدة أو مخصّصة أو عملنا على طبق رواية دلّت على جزئية شيء أو شرطيته أو عدم مانعيته ثم عثرنا على معارض لها أقوى منها، وهكذا، فهنا يأتي النزاع في أن ما أتى به المكلّف على طبق الأصل العملي الشرعي أو العموم أو الإطلاق مجز أم لا؟
والأقوال في المسألة كثيرة:
القول الأوّل: القول بالإجزاء مطلقاً سواء بالنسبة للإعادة أو القضاء، وممّن ذهب إلى ذلك السيد البروجردي (رحمه الله).
القول الثاني: ما ذهب إليه جماعة كثيرة من الأعلام، وهو القول بعدم الإجزاء مطلقاً.
القول الثالث: القول بالإجزاء في خصوص الأصول العملية كأصالة الطهارة والحلّية المنقحتين لموضوع التكليف دون الأمارات، وممّن ذهب إلى ذلك صاحب الكفاية (رحمه الله)، وقد تردّد في الاستصحاب لما له من جهة كاشفية كالأمارة ولكن قوّى كونه كأصالة الطهارة والحلّية الظاهرتين.
القول الرابع: القول بالإجزاء في الأمارات، بناءً على القول بالسببّية وعدمه، بناءً على القول بالطريقية.
هذا هو المهم من الأقوال التي ذكرها الأعلام.
إذا عرفت ذلك، فنقول:
ذهب صاحب الكفاية (رحمه الله): إلى القول بالإجزاء في الأصول المنقّحة لموضوع التكليف والمحقّقة لمتعلقه دون الأمارات. هذا ما ذكره في مبحث الإجزاء المتقدم، وحاصله: «أن دليل الأصل حاكم على دليل الاشتراط ومبيّن لدائرة الشرط، مثلاً إذا شككنا بتنّجس الماء الموجود في الإناء فتوضأنا، به أو شككنا في غصبية ثوب فصلينا فيه، ذلك بناءً على قاعدتي الطهارة والحلّية أو بناءً على استصحابهما ثم تبيّن نجاسة الماء أو غصبية الثوب، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى إجزاء المأتي به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي، لإن دليل الأصل العملي كأصالة الطهارة والحلّية الظاهرتين حاكم على دليلي الطهارة والإباحة الواقعيتين وموسّع لموضوعهما ودائرة شرطهما، فبعد أن كان الشرط خصوص الطهارة والإباحة الواقعيتين توسّع ليشمل الطهارة والإباحة الظاهريتين.
وعليه، فلما صلّى المكلف بالطهارة والحلّية الظاهرتين كان واجداً للشرط الذي هو أعمّ من الطهارة والحلّية الواقعيتين، فلا وجه لبطلان صلاته وإعادتها في الوقت أو قضائها خارجه بل لا يعقل فيه انكشاف الخلاف، غاية الأمر يرتفع بارتفاع موضوعه وهو الشك.
وعليه، فهي أحكام ثابتة واقعاً في مرحلة الظاهر ما دام الشك والجهل بالواقع، فلو صلّى المكلف بثوب طاهر ظاهراً ثم ظهر أنه نجس واقعاً لم ينكشف ان الصلاة فاقدة للشرط، لفرض ان الشرط أعمّ منها ومن الطهارة الظاهرية. والمفروض أنه واجد لها. نعم، الصلاة فاقدة للطهارة الواقعية إلّا أنك عرفت أن الشرط أعمّ منها. هذا بالنسبة إلى الأصول.
وأما بالنسبة إلى الأمارات، فقد ذكر ما حاصله: انه على القول بالطريقية والكاشفية عن الواقع، كما هو مذهب المشهور فهي غير مجزية ولا بدّ من الإعادة والقضاء، لأن الأمارة مجرّد كاشفة عن الواقع. وهذه الكاشفية قد تكون مصيبة له أو غير مصيبة إلّا أنها لا تغيّر الواقع، وبالتالي ما أتى به على طبق الأمارة ليس مأموراً به، ولا يمكن أن يكون غير المأمور به مجزياً عن المأمور به.
ومن المعلوم، أن الأمارة ليست أحسن حالاً من القطع، فإذا كان القطع الذي هو كاشف كشفاً تاماً عن الواقع غير مجزٍ بالاتفاق، إذا كان مخالفاً للواقع فبالأولى القول بعدم الإجزاء في الأمارة التي هي كاشفة عن الواقع كشفاً ناقصاً. هذا على القول بكون الأمارة طريقاً وكاشفة عن الواقع، وكذا على القول بأن المجعول فيها هي المنجزية والمعذرية، كما هو مختار صاحب الكفاية، فإنها غير مجزية فإذا أخطأت الواقع تكون معذرة فقط، لإنها لا تحمل حكماً ثم ذكر أخيراً أنه على القول بالسببّية تكون مجزية عن الواقع إلا أنه يلزم من ذلك القول بالتصويب المجمع على بطلانه». (انتهى حاص كلام صاحب الكفاية (رحمه الله)).
أقول:
أما كلامه في إجزاء الأصول العملية: فإنه غير تام.
أما بالنسبة لحديث الحكومة: فيرد عليه: أوّلاً: ان الحكومة على مبنى صاحب الكفاية تعني أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى الدليل المحكوم ومفسّراً له على نحو (أي) أو (أعني) أو نحو ذلك، وهذا لا نجده في الحكومة الظاهرية بين الدليل الواقعي والأصول العملية. مثلاً، إذا قام الدليل على حلّية لحم الغنم، ولسان أصالة الحلية: «كل شيء لك حلال ...» فأين المفسّرية لما دلّ على أن الغنم حلال؟ ولما دلّ على إشتراط الصلاة باللباس المباح؟ وهكذا بالنسبة إلى لسان أصالة الطهارة: «كل شيء لك طاهر ...» فإنه ليس مفسّراً لما دلّ على طهارة الماء.