الدرس 526 _ السجود 9
لا زال الكلام في ذكر الروايات التي دلت على استحباب السّبق باليدين إلى الأرض عند السجود قبل الركبتين.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: «رأيت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يضع يديه قبل ركبتيه إذا سجد وإذا أراد أن يقوم رفع ركبتيه قبل يديه».[1]
ومنها: رواية الحسين بن أبي العلاء قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يضع يديه قبل ركبتيه في الصلاة ؟ قال : نعم».[2]
ومنها: ما رواه طلحة السلمي أنه: «سأل أبا عبد الله (عليه السلام) لأي علة توضع اليدين على الأرض في السجود قبل الركبتين؟ قال لأن اليدين هما مفتاح الصلاة».[3] ولكنها ضعيفة بجهالة طلحة السلمي وبالإرسال، حيث إنَّ الصدوق (رحمه الله) لم يذكر طريقه إلى طلحة. ورواها الشيخ الصدوق (رحمه الله) في العلل لكن بسندٍ ضعيف لعدم وثاقة القاسم بن محمد الجوهري وبجهالة كل من الحسين بن الوليد وحماد بن الحسين.
هذا، وقد حُكي عن ظاهر الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الأمالي: إنَّ من دِين الإماميَّة عدم جواز وضع الرّكبتين قبل اليدين، ولعلّه استناداً إلى صحيحة زرارة المتقدّمة الظّاهر منها وجوب الابتداء باليدين؛ ويحتمل أنَّه يريد من عدم الجواز الكراهة.
ومهما يكن، فإنَّ الأمر في صحيحة زرارة المتقدّمة: « تضعهما على الأرض قبل ركبتيك»، محمول على الاستحباب جمعاً بينها وبين بعض الروايات:
منها: صحيحة عبد الرّحمان بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألتُه عن الرَّجل إذا ركع ثمَّ رفع رأسه أيبدأ، فيضع يديه على الأرض، أم ركبتَيْه؟ قال: لا يضرّه».[4]
ومنها: موثَّقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا بأس إذا صلّى الرَّجل أن يضع ركبتيه على الأرض قبل يديه».[5]
ثمَّ إنَّ المعروف أيضا عن جماعة من الأعلام: استحباب التلقي باليدين معاً، وهو صريح صحيحة زرارة المتقدمة.
ولكن في خبر عمَّار: «أنه يضع اليمنى قبل اليسرى»،[6] وحكاه المصنّف (رحمه الله) في الذّكرى عن الجعفي.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذا الخبر الذي أشار إليه المجلسي (رحمه الله) في البحار ضعيف بالإرسال، بل لم يُعلم أنَّه رواية عن الإمام (عليه السلام).
وحكى المصنّف (رحمه الله) في الذّكرى: عن ابن أبي عقيل أنَّه قال: يكون أوَّل ما يقع منه على الأرض يداه، ثمَّ ركبتاه، ثمَّ جبهته، ثمَّ أنفه، والإرغام به سنّة؛ ولكن لا يوجد له نصّ على ذلك.
وعليه، فما ذكره المشهور من الأعلام هو الأقوى؛ هذا كلُّه في الرَّجل؛ وأمَّا المرأة فسيأتي الكلام عن حكمها، والله العالم.
*قال الشهيد الأول في الدروس: وجعل يديه بحذاء أُذنَيْه مضمومتي الأصابع، ورؤوسهما إلى القبلة*
كما في حسنة حمَّاد بن عيسى بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في المجالس، والكليني في الكافي قال: «وسجد، ووضع كفَّيه مضمومتي الأصابع بين ركبتيه، حِيال وجهه»[7]، ونحوها صحيحة زرارة الطّويلة حيث ورد فيها: «وابسطهما على الأرض بسطا، واقبضهما إليك قبضاً، وإن تحتهما ثوب فلا يضرّك، وإن أفضتَ بهما إلى الأرض فهو أفضل، ولا تفرجنّ بين أصابعك في سجودك ولكن ضمهن جميعاً»[8]، وحكى المصنّف (رحمه الله) في الذّكرى عن ابن الجنيد أنَّه يفرّق الإبهام عنها، ويستقبل بأصابعها القِبلة.
وقد يستدلّ لتفريق الأصابع برواية زيد النُّرسي في أصله عن سماعة قال: رأيتُ أبا عبد الله (عليه السلام): «إذا سجد بسط يديه على الأرض بحذاء وجهه، وفرَّج بين أصابعه، ويقول: إنّهما يسجدان كما يسجد الوجه»[9]، وهي ضعيفة بعدم وثاقة زيد النُّرسي.
وأمَّا أصله فهو ثابت، وليس موضوعاً، وللنجاشي طريق حسن إليه.
*قال الشهيد الأول في الدروس: والتجنيح، ورفع الذِّراعين عن الأرض*
التجنيح: هو رفع المرفقين عن الأرض جاعل يديه كالجناحين.
وعليه، فرفع الذّراعين عن الأرض في كلام المصنِّف (رحمه الله) يكون عطف تفسير.
ولعلَّه تَبِع في ذلك صحيحة حمّاد، حيث ورد فيها وكان مجنِّحاً، ولم يضع ذراعيه على الأرض.
ويدل عليه أيضاً صحيحة زرارة الطّويلة المتقدمة «ولا تفترش ذراعيك افتراش الأسد (السّبع) ذراعيه، ولا تضعنّ ذراعيك على ركبتيك وفخذيك، ولكن تجنّح بمرفقيك».
وروى في البحار نقلاً من خطّ بعض الأفاضل عن جامع البزنطي عن الحلبي عن الصَّادق (عليه السلام) قال: «إذا سجدتّ فلا تبسط ذراعيك كما يبسط السَّبُع ذراعيه، ولكن جنِّح بهما، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يجنِّح بهما، حتَّى يُرى إبطَيْه»[10]، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال، ونقل المصنّف (رحمه الله) في الذِّكرى عن ابن الجنيد أنَّه قال: لو لم يجنِّح الرَّجل كان أحبّ إليّ، ولكن عرفت ما هو الإنصاف.
*قال الشهيد الأول في الدروس: والتجافي*
وهو بمعنى رفع البطن عن الأرض>
قال المصنّف (رحمه الله) في الذّكرى: والتجافي في السُّجود، ويسمَّى تخويةً أيضاً، لأنَّه إلقاء الخواء بين الأعضاء.
ويحتمل أن يكون هو التخوية المذكورة في رواية حفص الأعور عن أبي عبد الله (عليه السلام) المتقدِّمة قال: «كان عليّ (عليه السلام) إذا سجد يتخوَّى كما يتخوَّى البعير الضَّامر، يعني بروكه»[11]، وقلنا: إنَّها ضعيفة بجهالة حفص الأعور.
وقال ابن الأثير في محكي النهاية في الحديث أنَّه كان إذا سجد خوى، أي جاف بطنه عن الأرض، ورفعها، وجافى عضديه عن جنبه حتَّى يخوي ما بين ذلك، وفي القاموس: خوى في سجوده تخويةً: تجافي، وخرج ما بين عضديه وجنبَيْه.
ثمَّ إنّ استحباب التجافي يستفاد من صحيحة حمَّاد، وغيرها.
*قال الشهيد الأول في الدروس: ومساواة مواضع الأعضاء، ويجوز التفاوت بلَبِنة، لا أزيد*
المعروف بين الأعلام أنَّه يستحب مساواة موضع الجبهة مع الموقف.
ويدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان قال: «سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن موضع جبهة السَّاجد، أيكون أرفع من مقامه؟ فقال: لا، ولكن مستوياً»[12]، وكذا صحيحة أبي بصير -يعني المرادي- قال: «سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرَّجل يرفع موضع جبهته في المسجد، فقال: إنّي أحبُّ أن أضع وجهي في موضع قدمي، وكرهه»[13]، أي كره رفع الجبهة عن الموقف.
هذا، وقد ذكر بعض الأعلام أنَّه يستحبّ مساواة جميع المساجد، ومنّهم المصنِّف (رحمه الله) هنا وفي الذّكرى.
قال في الجواهر: لعلَّه لأنَّه أقوم للسُّجود، ولاحتمال عود الضمير في قوله: «وليكن»، في صحيح ابن سنان إلى مكان السُّجود جميعه، لا خصوص المسجد ولغير ذلك، مما يمكن استفادته ممَّا ذكرناه في الواجب الثالث.
وفيه: ما لا يخفى، لأنَّ ما ذكره (رحمه الله) لا يصلح أن يكون دليلاً.
وأمَّا قضية عدم التفاوت بأكثر من لَبِنة فقد ذكرنا هذه المسألة بالتفصيل سابقاً عند قول الشهيد الأول في الدروس: ولا يجوز علوّ موضع الجبهة عن الموقف بأزيد من لَبِنة موضوعة على أكبر سطوحها، فراجع[14].
*قال الشهيد الأول في الدروس: وزيادة التمكُّن في السُّجود ليحصل السِّيماء*
قال المصنِّف (رحمه الله) في الذّكرى: ومنها استحباب زيادة التمكين في السُّجود، لتحصيل أثره الذي مدح الله تعالى عليه بقوله ﴿سيماهم في وجوهم من أثر السُّجود﴾.
أقول: قد استفيد ذلك من عدَّة وروايات:
منها: روايات السّكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال عليّ (عليه السلام): إنّي لأكره للرّجل أن أرى جبهته جلحاء، ليس فيها أثر السُّجود»[15]، وهي ضعيفة بعدم وثاقة كلٍّ من محمَّد بن حسان وأبي محمَّد الرّازي.
ومنها: رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) -في حديث- قال: «إن أبي عليّ بن الحسين (عليه السلام) كان أثر السُّجود في جميع مواضع سجوده، فسمّي السّجاد لذلك»[16]، وهي ضعيفة بعَمْرو بن شمر، وإبراهيم بن إسحاق الأحمر، وبعدم وثاقة محمّد بن محمّد بن عصام.
ومنها: رواية أبي علي محمّد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن الباقر (عليه السلام) قال: «كان لأبي (عليه السلام) في موضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطّعها في السَّنة مرتين، في كلّ من مرة خمس ثفنات، فسمي ذا الثفنات لذلك»[17]، وهي ضعيفة بعدم وثاقة كلّ من محمّد بن محمّد بن عصام، ومحمّد بن إسماعيل وأبيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الوسائل باب 1 من أبواب السُّجود ح1.
[2] الوسائل باب 1 من أبواب السُّجود ح4.
[3] الوسائل باب 1 من أبواب السُّجود ح6.
[4] الوسائل باب 1 من أبواب السُّجود ح3.
[5] الوسائل باب 1 من أبواب السُّجود ح5.
[6] بحار الأنوار: المجلد 81 ص193.
[7] الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصَّلاة ح2.
[8] الوسائل باب 1 من أبواب أفعال الصَّلاة ح3.
[9] المستدرك باب 2 من أبواب السُّجود ح2.
[10] المستدرك باب 3 من أبواب السُّجود ح2.
[11] الوسائل باب 3 من أبواب السُّجود ح1.
[12] الوسائل باب 10 من أبواب السُّجود ح1.
[13] الوسائل باب 10 من أبواب السُّجود ح2.
[14] كتابنا الصلاة المجلد الثالث ص 58.
[15] الوسائل باب 21 من أبواب السُّجود ح1.
[16] الوسائل باب 21 من أبواب السُّجود ح2.
[17] الوسائل باب 21 من أبواب السُّجود ح3.