الدرس 32 _ الاصول العملية: البراءة 30
وأمّا رواية أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت». ومرسلة الشهيد: «ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط». فمضافاً إلى ضعفهما سنداً لا يمكن حمل الأمر بالاحتياط فيهما وفي غيرهما أيضاً على المولوي وذلك لأمرين:
أحدهما: إنّ حسن الاحتياط ممّا استقلّ به العقل، وظاهر هذه الروايات هو الارشاد إلى هذا الحكم العقلي، فيكون تابعاً لما يرشد إليه، وهو يختلف باختلاف الموارد. ففي بعضها كان الاحتياط واجباً، كما في الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي، وفي بعضها الآخر كان مستحباً، كما في الشبهة البدوية بعد الفحص، والتي هي محلّ الكلام فعلاً.
الأمر الثاني: إنّ هذه الروايات تشمل بإطلاقها الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية الوجوبية، مع أنّ الاحتياط فيهما غير واجب قطعاً، فلو حمل الأمر بالاحتياط في تلك الروايات على الأمر المولوي للزم تخصيص الأكثر، لما عرفت، من عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية مطلقاً وفي الشبهات الحكمية الوجوبية بالاتفاق. والله العالم.
[الدليل الثالث: العقل]
*قال صاحب الكفاية: «وأما العقل، فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته...*
الدليل الثالث الذي استدلّ به الإخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية هو حكم العقل. وتقريره من وجهين:
الوجه الاول: العلم الاجمالي.
وتوضيحه على ما ذكره الشيخ الأنصاري: «وهو أنّا نعلم إجمالاً قبل مراجعة الأدلّة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾، ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب واليقين بعدم العقاب، لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتفاق المجتهدين والإخباريين، وبعد مراجعة الأدلّة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية، فلا بدّ من اجتناب كل ما احتمل أن يكون منها، إذا لم يكن هناك دليل شرعي يدلّ على حلّيته، إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعاً». (انتهى كلامه).
وهذا البيان للعلم الإجمالي أحسن بكثير ممّا ذكره صاحب الكفاية، لأنّ على ما ذكره (رحمه الله) يلزم منه الاحتياط في الشبهة الحكمية الوجوبية أيضاً، مع أنّ معظم الإخباريين ذهبوا إلى البراءة فيها. نعم، ما ذكره (رحمه الله) في الشبهة الوجوبية يصلح نقضاً لهذا الدليل، لأنّه كما نعلم اجمالاً قبل مراجعة الأدلّة بمحرمات كثيرة يجب تركها على وجه اليقين، فكذلك نعلم اجمالاً قبل مراجعة الأدلّة بواجبات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ الخروج عن عهدة فعلها على وجه اليقين بالإتيان بكل ما احتمل وجوبه، مع أنّ معظم الإخباريين لا يلتزمون بوجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية. وبالجملة، فهذا إشكال نقضي عليهم.
ومهما يكن فقد أجيب عن هذا الدليل: بأنه يتمّ إذا لم ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي. ولكن الإنصاف: أنّه قد انحلّ بعد الرجوع إلى الأدلّة والاطلاع على مقدار من المحرمات يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها. وتوضيحه: إنّ لنا علمين اجماليين:
أحدهما: العلم الاجمالي الكبير، وأطرافه الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة.
ثانيهما: العلم الاجمالي الصغير، وأطرافه الأمارات المعتبرة فقط.
وحيث إنّ العلم الإجمالي الكبير ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير، فلا يتنجّز التكليف في غير مؤدّيات الطرق والأمارات المعتبرة.
والميزان في الانحلال أن لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الاجمالي الصغير أقلّ عدداً من المعلوم بالإجمال في العلم الاجمالي الكبير، مثلاً، إذا علمنا إجمالاً بوجود عشرة شياه موطوءة بوطىء الإنسان في قطيع من الغنم نصفه من الأبيض والنصف الآخر من الأسود، ثمّ علمنا بوجود عشرة شياه موطوءة في جملة البيض من هذا القطيع، واحتملنا أنّ العشرة الأولى الموطوءة هي هذه العشرة الموجودة في ضمن البيض، فلا محالة ينحلّ العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني. فلو أفرزنا عشرة شياه بيض لم يبقَ لنا علم اجمالي بموطوئيّة الباقي. وهذا بخلاف ما لو علمنا اجمالاً بوجود خمس شياه موطوءة في ضمن البيض من القطيع، فإنّ العلم الاجمالي الأوّل لا ينحلّ بالعلم الاجمالي الثاني، إذ لو أفرزنا خمس شياه بيض بقي علمنا الاجمالي بموطوئيّة البعض الباقي بحاله، كما لا يخفى.
وهكذا الحال في المقام، فلو أفرزنا مقداراً من أطراف العلم الاجمالي الصغير التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال بالعلم الاجمالي الكبير عليها لم يبقَ لنا علم اجمالي بالمحرمات في غيره، بل هو مجرّد احتمال. وعليه، فبذلك ينحلّ العلم الاجمالي ويخرج عن المنجّزية، وهذا لا إشكال فيه.
وإنّما الكلام في أنّ الانحلال المذكور حقيقي أو حكمي؟
فنقول: إنّ ما به الانحلال إمّا أن يكون هو العلم، وإمّا أن يكون غيره من أمارة ظنية معتبرة، أو أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف، كالاستصحاب، وعلى جميع الأحوال، فقيام الطريق المثبت للتكليف تارةً يكون مقارناً لحصول العلم الاجمالي، وأخرى يكون سابقاً عليه، وثالثة يكون متأخراً عنه.
إذا عرفت ذلك، فنقول: أمّا إذا كان قيام الأمارة التفصيلية مقارناً لحصول العلم الاجمالي بالتكليف.
فقد يتوهّم كونه منشأ لانحلال العلم الاجمالي حقيقة وانقلابه إلى علم تفصيلي وشك بدوي وجداناً، كما في الأقلّ والأكثر الاستقلاليين من جهة رجوع العلمين إلى علم واحد بالتكليف في طرف بالخصوص وشكّ بدوي في غيره.
بتقريب: أنّ ذلك هو مقتضى تعلّق العلم الاجمالي بالجامع القابل للانطباق على كلّ واحد من الطرفين، فإنّه إذا علمنا بحرمة أحد الإناءين بلا عنوان فيه، وعلمنا أيضاً بحرمة أحدهما المعيّن، يلزمه انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم على الإناء المعلوم حرمته تفصيلاً، ومع انطباقه عليه واتحاده معه خارجاً يستحيل بقاء العلم الاجمالي على حاله، لاستحالة توارد العلمين على شيء واحد، فلا محيص حينئذٍ من ارتفاع العلم الاجمالي وتبدّله بالعلم التفصيلي بحرمة أحد الإناءين معيّناً، والشكّ البدوي في الآخر.
هذا غاية ما قيل في تقريب انحلال العلم الاجمالي بالجامع وانقلابه حقيقة إلى العلم التفصيلي بالتكليف في أحد الطرفين معيّناً والشكّ البدوي في الآخر.