الدرس105 _قضاء الصلوات 3
أقول: أمَّا الروايات المثبتة للقضاء مطلقاً والتي حُكي عن المقنع للصدوق رحمه الله العمل بها فالإنصاف أنَّها محمولة على الاستحباب جمعاً بينها وبين الأخبار النافية، وهذا جمع عرفي.
ويؤيِّد الحمل على الاستحباب: حسنة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام «أنَّه سأله عن المغمى عليه شهراً، أو أربعين ليلة، قال: فقال: إن شئت أخبرتك بما آمر به نفسي وولدي، أن تقضي كلما فاتك»[i]f606، والرواية معتبرة، وليست ضعيفة بالإرسال، لأنَّ من المطمأنّ به أنَّ غير الواحد الذي يروي عنهم إبراهيم بن هاشم فيهم ثقة.
ووجه التأييد في الحمل على الاستحباب: أنَّ الحكم المذكور، لو كان واجباً، لم يكن وجه لتخصيصه بنفسه وولده.
ومثلها رواية أبي كهمس «قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام وسُئِل عن المغمى عليه، أيقضي ما ترك من الصلاة؟ فقال: أمَّا أنا وولدي وأهلي فنفعل ذلك»[ii]f607، ولكنَّها ضعيفة بأبي كهمس، فإنَّه مجهول.
وأمَّا الروايات المفصّلة: فمحمولة على اختلاف مراتب الفضل، وتصبح النتيجة أن الأفضل قضاء الجميع، ثمّ الشهر، ثمّ الثلاثة، ثمّ اليوم، والله العالم.
ثمَّ المعروف بين الأعلام أنّه لا فرق في سبب الإغماء بين الآفة السماوية وفعل المكلف، وذلك لإطلاق كثيرٍ من النصوص المتقدّمة، خلافاً للمصنِّف في الذكرى، حيث أوجب القضاء فيما لو كان الإغماء بفعل المكلّف، ونسبه إلى الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه، ووافقه جماعة من الأعلام.
وقد يستدلّ لذلك بأمرين:
الأمر الأوَّل: دعوى انصراف الإطلاق إلى الغالب المتعارف، وهو ما لو كان الإغماء بآفة سماوية.
وعليه، فيندرج ما كان بفعل المكلَّف حينئذٍ تحت عموم قوله صلى الله عليه وآله: «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته».
وفيه: أنَّ دعوى الانصراف في غير محلِّها، لأنَّ منشأ هذا الانصراف ندرة الوجود، أي: ندرة كون الإغماء بفعل المكلّف، وهو لا يضرّ بالإطلاق.
أضف إلى ذلك: أنّ رواية «من فاتته فريضة...» نبويّة ضعيفة السند.
الأمر الثاني: اشتمال جملة من نصوص الإغماء على قوله عليه السلام: «كلّما غلب الله عليه» فهو أولى بالعذر الذي هو بمنزلة التعليل للحكم، فيُستفاد منه اختصاصه بمورد ثبوت هذه العلّة، وهو كون العذر الموجب لفوات الصَّلاة في وقته من قبل الله تعالى، دون المكلف نفسه، وبذلك نقيِّد الإطلاق في سائر النصوص غير المشتملة على هذا التعليل، بل ذهب صاحب الحدائق رحمه الله إلى أكثر من ذلك،حيث جعل العلّة المذكورة في بعض النصوص مقيِّدة للمطلقات الواردة في باب الحيض والنفاس، فالتزم بثبوت القضاء على الحائض والنفساء إذا حصل العذر بفعلهما أخذاً بعموم العلة.
أقول: لا بدّ منِ استعراض النصوص المشتملة على هذا العليل لنرى هل أنَّها تدلّ على ذلك، أم لا.
فمنها: صحيحة علي بن مهزيار «أنَّه سأله يعني أبا الحسن الثالث عليه السلام عن هذه المسألة، فقال: لا يقضي الصوم ولا يقضي الصَّلاة، وكلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر»[iii]f608، وليس المراد من العذر في قوله عليه السلام: «فالله أولى بالعذر» هو العذر في القضاء، لأنَّه ممَّا لم يغلب الله عليه فيه، بل المراد العذر في الأداء، لأنَّه المغلوب عليه فيه، وبعد إصلاح الرواية يصبح المعنى هكذا: كلّ مَنْ يُعذر في الأداء لا يجب عليه القضاء، فالمغمى عليه داخل في موضوع القضيّة المذكورة، فيثبت له حكمها.
ومنها: مارواه الشيخ الصدوق رحمه الله في العِلل وعيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام في حديث «قال: وكذلك كلّما غلب الله عليه مثل المغمى الذي يغمى عليه في يوم وليلة فلا يجب عليه قضاء الصَّلوات كما قال الصادق عليه السلام: كلّما غلب الله على العبد فهو أعذر له»[iv]f609، ولكنّه ضعيف السند لضعف طريق الصدوق إلى الفضل بن شاذان، فإنَّ له إليه طريقين، في أحدهما ابن عبدوس وابن قتبية، وهما غير موثقين، وفي الآخر جعفر بن نعيم بن شاذان، ومحمّد بن أحمد بن شاذان، وهما غير موثّقين أيضاً.
ومنها: ما رواه الصدوق رحمه الله أيضاً في العِلل والخصال عن محمّد بن الحسن، عن الصفّار عن، أحمد بن محمّد عن، ابن سنان عن عبد الله بن مسكان، عن موسى بن بكر «قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام الرجل يغمى عليه يوماً، أو يومين، أو الثلاثة، أو الأربعة، أو أكثر من ذلك، كم يقضي من صلاته؟ قال: ألَا أُخبرك بما يجمع لك هذه الأشياء، كلّ ما غلب الله عليه من أمر فالله أعذر لعبده»[v]f610، قال عبد الله بن مسكان: «وزاد فيه غير موسى بن بكر: أن أبا عبد الله عليه السلام قال: هذا من الأبواب التي يفتح كلّ باب منها ألف باب»[vi]f611، لكنَّه ضعيف لأنّ ابن سنان الراوي عن عبد الله بن مسكان والراوي عنه أحمد بن محمد هو محمد بن سنان الضعيف، لا عبد الله الثقة.
ومنها: رواية مرازم «قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المريض لا يقدر على الصَّلاة، قال: فقال: كلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر»[vii]f612، وهي ضعيفة أيضا بعليّ بن حديد.
مضافاً إلى أنَّه لا يوجد فيها نص على القضاء، بل لم ينصّ فيها على مسألة المغمى عليه، وإنّما موضوعها المريض الشامل للمغمى عليه.
ومنها: حسنة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: كلّما غلب الله عليه فليس على صاحبه شيء»[viii]f613، وهي أيضاً لم يذكر فيها مسألة المغمى عليه، فضلاً عن القضاء.
هذه هي الروايات الوارد فيها هذا التعليل، ومع قطع النظر عن ضعف السند في بعضها وضعف الدَّلالة في البعض الآخر، فإن أقصى ما يستفاد منها قضيّة كليّة، وهي نفي القضاء وغيره من المؤاخذات المترتبة على ترك الواجبات في وقتها إذا كان ذلك بإغماء ونحوه من الأسباب الخارجة عن اختيار المكلّف، ولا يستفاد منها العليّة الانحصاريّة التي هي المناط في المفهوم.
وإن شئت فقل: إنَّ هذا التعليل من باب مفهوم القيد لا مفهوم الشَّرط.
وعليه، فأقصى ما تدلّ عليه هذه الروايات هو أنَّ علّة نفس القضاء كون الإغماء ممَّا غلب الله عليه، وأمَّا انحصار العلَّة بذلك بحيث يدلّ على ثبوت القضاء فيما إذا كان الإغماء بفعله فلا يستفاد منها، بل لعلّه هناك علّة أخرى توجب نفي القضاء، وإن كان الإغماء بفعله.
وبالجملة، فالروايات لا تدلّ على العليَّة الانحصاريَّة، كما لا توجد قرينة خارجية تدلّ على انحصار العلة بذلك.
وعليه، فلا يكون هذا التعليل مقيّداً لإطلاق الروايات غير المشتملة عليه.
وبالجملة، فإنَّ الروايات المشتملة على هذا التعليل وإن لم تكن مطلقة، بحيث تشمل ما كان الإغماء بفعله، إلاّ أنّها لا تصلح لتقييد باقي الروايات المطلقة، فضلاً عن أن يتعدى منها إلى الحائض والنفساء ونحوهما ممَّا لا ربط لهذا التعليل به.
[i] الوسائل باب 4 من أبواب قضاء الصلوات ح13.
[ii] الوسائل باب 4 من أبواب قضاء الصلوات ح12.
[iii] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح3.
[iv] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح7.
[v] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح8.
[vi] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح9.
[vii] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح16.
[viii] الوسائل باب 3 من أبواب قضاء الصلوات ح24.