الدرس 26 _ الاصول العملية: البراءة 24
وأمّا إذا كان المستصحب: هو العدم في حال الصغر السابق على البلوغ وهو الذي يعبر عنه باستصحاب البراءة الأصلية.
فقد أشكل عليه بعدّة إشكالات:
الإشكال الأول: ما ذكره الميرزا النائيني (رحمه الله): من أنّ الثابت في حقّ الصغير ليس إلاّ عدم وضع قلم التكليف عليه، بمعنى كونه مرخى العنان. ولا حرج عليه في كلّ من الفعل والترك من دون أن يكون الشارع أطلق عنانه ورفع قلم التكليف عنه، فإنّ اللاّحرجية الشرعية إنّما تكون في الموضوع القابل لوضع قلم التكليف، وذلك إنّما يكون بعد البلوغ. وبالجملة، فإنّ عدم التكليف الثابت قبل البلوغ لا يستند إلى الشارع، لأنّ الصغير ليس في حال يمكن وضع قلم التكليف عليه، بل هو كالبهائم ليس في حقّه جعل شرعي لا وجوداً ولا عدماً، لقصوره عن ذلك بنفسه، فإنّ اللاّحرجية العقلية القهريّة الثابتة في حق الصغير تغاير اللاّحرجية الشرعية الثابتة في حق البالغ، فالعدم الثابت قبل البلوغ عدم محمولي وغير منتسب إلى الشارع، والعدم بعد البلوغ عدم نعتي منتسب إلى الشارع، وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي مبني على القول بالأصل المثبت، وهو غير حجّة. وأمّا استصحاب العدم النعتي فغير صحيح، لعدم الحالة السابقة له.
ويرد عليه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ في العدم السابق على رشد الصبي وتمييزه، أي يتمّ في الصبي غير المميّز، وأمّا بعد الرشد والتمييز، فإنّه ليس كالبهائم، بل يمكن وضع قلم التكليف عليه، كما وضع في حقّه قلم التكليف الاستحبابي، بناءً على شرعية عبادات الصبي، كما هو الأقوى عندنا. فعدم التكليف في حال التمييز يمكن إسناده إلى الشارع، ولذا لو شكّ في استحباب شيء عليه بعد البلوغ، يصحّ استصحاب عدم الاستحباب الثابت في حقه في حال الصغر.
الإشكال الثاني: ما يظهر من كلام الشيخ الأنصاري، وحاصله: إنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة في الموضوع والمحمول ليصدق نقض اليقين بالشكّ، فإنّه مع عدمه كان إثبات حكم المتيقّن للمشكوك من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وهذا ليس استصحاباً، بل هو داخل في القياس. وبالجملة، فإنّ شرط الاتحاد في الموضوع ركن أساسي في جريان الاستصحاب، وفي موردنا هذا لم تتحد القضية المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً، إذ عدم التكليف الثابت قبل البلوغ إنّما هو ثابت لعنوان الصبي على ما هو الظاهر من حديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، والمشكوك فيه هو عدم التكليف لعنوان آخر وهو البالغ، فاختلف الموضوع. هذا حاصل ما يظهر من كلام الشيخ الأعظم.
ولكي نحكم بصحّة هذا الكلام لا بدّ من تقديم مقدمة ذكرناها في مبحث الاستصحاب، وحاصلها: إنّ الموضوع في القضية المتيقنة والذي لا بدّ من اتحاده مع القضية المشكوكة، إنّما يكون المرجع في تشخيصه إلى العرف:
إذ قد يرى العرف أنّ بعض الخصوصيات الداخلة في الموضوع مقوّمة له، بحيث إذا انتفت انتفى الحكم الثابت للموضوع. مثلاً إذا قال المولى: صلِّ خلف العادل، فإنّ العرف يرى أنّ العدالة مقوّمة للموضوع الثابت له الحكم، بحيث إذا انتفت انتفى الحكم الثابت له، فلو صار المكلّف فاسقاً لم يصحّ استصحاب جواز الصلاة خلفه، لأنّ العرف يرى أنّ الموضوع في القضية المشكوكة شيء آخر مغاير للموضوع في القضية المتيقّنة.
وتارةً لا تكون الخصوصية مقوّمة للموضوع بنظرهم، بل هي من الحالات العارضة عليه، بحيث لو زالت عن المكلّف لا تؤثّر في بقاء الموضوع. مثلاً إذا قال الإمام (عليه السّلام): «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس»، فإنّ الجلوس لا أثر له في الموضوع، بل هو من الحالات الطارئة على الإنسان، فلو ثبت الحكم للجالس ثمّ قام وشككنا في بقاء الحكم، فلا مانع من جريان الاستصحاب، لأنّ الموضوع عند العرف واحد ولم يتغير.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل، لأنّ عنوان الصبي الذي هو الموضوع لعدم التكليف في حال الصغر مغاير لعنوان البلوغ عند العرف، فإذا شككنا في بقاء الحكم بعد البلوغ لا يكون إعطاء الحكم للبالغ من باب الاستصحاب، بل من باب القياس وإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، بل حتى لو شككنا في بقاء الموضوع لا يجري الاستصحاب، إذ مع الشك في بقاء الموضوع لم يحرز اتحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة، فلم يحرز صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق، فيكون التمسك بأدلّة الاستصحاب من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.
والخلاصة إلى هنا: هو عدم صحّة الاستدلال على البراءة بالاستصحاب. نعم، لو تمّ استصحاب عدم التكليف لكان أصل البراءة محكوماً دائماً باستصحاب العدم، إذ مع جريان الاستصحاب الذي هو أصل محرز لا مجال للبراءة، إلاّ إذا تبادل الحالتان، بأن علم مثلاً أنّه كان حراماً في زمان وكان حلالاً في زمان آخر ولم يعلم السابق من اللاحق، ففي هذه الحالة لا يجري الاستصحاب، إمّا للتعارض -كما هو الأقوى عندنا- أو لعدم اتصال اليقين بالشك على مبنى صاحب الكفاية. وعليه، فيجري أصل البراءة بلا منازع، والله العالم.