الدرس182 _لباس المصلي 55
إذا عرفت ذلك فنرجع إلى موضع مسألتنا، فنقول:
أوّلاً: إنَّ العدم الأزلي هنا قدِ انتقض بالوجود، لوجود ما لا يُؤْكل لحمه بكثرة في الدنيا.
وأمَّا القول: بأنَّ المراد بالعدم الأزلي عدم اتّصاف هذا الحيوان بما لا يُؤْكل لحمه.
ففيه: أنَّه عبارة أخرى عن العدم النعتي، لأنَّه مضاف إلى موضوع، والتعبير الصحيح عن العدم المحمولي هو عدم ما لا يُؤْكل لحمه.
وثانياً: أنَّ الموضوع لجواز الصَّلاة هو المتّصف بعدم كونه مأخوذاً من غير المأكول على نحو العدم النعتي، وبما أنَّه لا حالة له سابقة فلا يجري الاستصحاب.
وأمَّا استصحاب عدم أخذه من غير المأكول لإثبات اتّصافه بعدم كونه مأخوذاً من غير المأكول فهو من الأصل المثبت، وهو غير حجّة.
نعم، لو كان الموضوع هو ما لم يُؤخذ من غير المأكول على نحو العدم المحمولي لجرى فيه استصحاب العدم الأزلي، ولكنّك عرفت أنّ المأخوذ هو على نحو العدم النعتي، والله العالم.
الوجه الرابع: استصحاب عدم كون المصلّي لابساً لغير المأكول الثابت قبل لُبْسه المشكوك فيه، وهذا يتوقّف على أنّ مانعيّة غير المأكول راجعة إلى المصلّي لا إلى الصَّلاة، ولا إلى اللباس.
وتوضيحه: أن مانعية غير المأكول تارة تكون معتبرة في نفس الصَّلاة بأن اعتبر فيها أن لا تقع في غير المأكول. وعليه فالصَّلاة تكون مقيدة بأن لا تكون فيما لا يُؤْكل لحمه فلا يكون القيد راجعاً لا إلى المصلي ولا إلى اللباس.
ويستفاد رجوعه إلى الصَّلاة من موثقة ابن بكير المتقدمة حيث ورد فيها: «فالصَّلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصَّلاة...» فهي ظاهرة في كون الصَّلاة مقيدة بعدم كونها فيما لا يُؤْكل لحمه.
وعليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا يصح الاستصحاب فيما إذا كان المصلي لابساً لما يشك كونه ممّا لا يُؤْكل لحمه في ابتداء الصَّلاة أو كان حاملاً له كذلك، وذلك لعدم وجود حالة سابقة، إذ الصَّلاة من أول حدوثها يشك في صحتها وفسادها لاحتمال اقترانها بالمانع من أول الأمر فيرجع حينئذٍ إلى الأصل الحكمي من البراءة أو الاشتغال كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
نعم، لو لم يكن لابساً للمشكوك فيه في ابتداء الصَّلاة. وإنما لبسه في الأثناء أو حمله في الأثناء، فنستصحب الصحَّة حينئذٍ لليقين بعدم وجود المانع حين الدخول في الصَّلاة والشك في عروضه فنستصحب الصحَّة.
وأما لو كانت المانعية معتبرة في اللباس لا في الصَّلاة ولا في المصلّي. فلا يجري الاستصحاب أيضاً لعدم الحالة السابقة، إذ اللباس من أول وجوده يُشك في كونه متخذاً من محلل الأكل أو محرّمه، ولا أصل يعيّن ذلك، ولا فرق في ذلك بين كون المصلّي لابساً له من الابتداء أو لبسه في الأثناء كما لا يخفى.
نعم بناءً على جريان استصحاب العدم الأزلي يمكن إحراز كون اللباس من غير المأكول فيقال: إنه في وقت لم يكن لباساً ولم يكن ما لا يُؤْكل ثمَّ وجد اللباس ونشك في وجود الثاني فنستصحب عدمه، ولكنك عرفت الإشكال في استصحاب العدم الأزلي.
وأما لو كانت المانعية معتبرة في المصلّي فلا إشكال في جريان الاستصحاب لوجود الحالة السابقة، إذ المصلّي قبل أن يلبس المشكوك لم يكن لابساً لما لا يُؤْكل يقيناً فيستصحب عدمه إلى ما بعد اللباس وبذلك يحكم بصحَّة الصَّلاة.
ولا فرق في هذه الحالة بين كونه لابساً له أو حاملا له في الابتداء أو في الأثناء.
وقد يقال: إن المستفاد من الروايات أن المانعية معتبرة في المصلّي، فقد ورد في ذيل موثقة سماعة: «وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه»[i]f298 حيث يستفاد منها أن مانعية ما لا يُؤْكل راجعة إلى المصلي.
إن قلت: موثقة ابن بكير المتقدمة ظاهرة في كون المانعية راجعة إلى نفس الصَّلاة. كما أشرنا سابقاً فتنافي حينئذٍ موثقة سماعة.
هذا، وقد ذكر السّيد أبو القاسم الخوئي (قدِّس سرُّه الشَّريف) أنَّ موثَّقة ابن بكير يُستفاد منها أيضاً رجوع المانعيّة إلى المصلّي، وذلك لأنّ لُبْس ما لا يُؤْكل لحمه فعل من أفعال الصَّلاة، والصَّلاة أيضاً فِعْل، فلو كانت المانعيّة راجعة إلى الصَّلاة للزم أن يكون أحد الفعلين، وهو لُبْس ما لا يُؤْكل ظرفاً للفعل الآخر، وهو الصَّلاة، وهو غير صحيح، إذ لا يكون الفعل ظرفاً للفعل سواء أريد به ظرف الزمان، أو المكان، فلا معنى لكون لُبْس الوبر ظرفاً للصَّلاة إلاّ بعناية توسّط المصلّي نفسه، حيث إنّ اللباس الذي هو شرط في الصَّلاة، ولو في الجملة، لمَّا كان محيطاً بالمصلّي بوصفه العنواني، فكأنّ الصَّلاة أيضاً بنفسها وقعت فيه، وإلاّ فلا مصحح لإطلاق الظرفية مع الغض عن هذا التوسيط.
أقول: ليست المسألة من باب الظرف والمظروف، فلا لُبْس الوبر ظرفاً للصَّلاة، ولا اللباس نفسه ظرفاً لها، كما لا يخفى، إذ ليست هي واقعة في اللباس حتّى يكون اللباس ظرفاً لها، غاية ما هناك أن الصَّلاة مشتملة على ما لا يُؤْكل، وهذا ليس من باب الظرفيّة، ومثل هذا المانع مثل باقي الموانع مثل القهقهة، والتكلّم، ونحوهما، ولا معنى لكون هذه الأمور ظرفاً للصَّلاة بأيّ شكل من الأشكال.
والإنصاف: أنّ القيد راجع للصَّلاة نفسها كما هو ظاهر جدّاً من موثّقة ابن بكير، وأمَّا موثّقة سماعة، فلا يظهر منها أنّ القيد راجع إلى المصلّي، بل ظاهر قوله N: «ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه» أنّ لُبْس ما لا يُؤْكل مانع من صحَّة الصَّلاة، ومرجع ذلك إلى أنّ الصَّلاة مقيَّدة بعدم لبس ما لا يُؤْكل لحمه، كما أنَّها مقيَّدة بعدم القهقهة، وعدم التكلّم، ونحو ذلك.
وعليه، فإذا كان القيد راجعاً إلى الصَّلاة، فلا يجري الاستصحاب، لعدم الحالة السابقة.
[i] الوسائل باب 11 من أبواب لباس المصلّي ح10.