ومنها: رواية الحلبي في حديث «قال: سألته عن رجل نَسِيَ الأُولى والعصر جميعاً، ثمّ ذَكَر ذلك عند غروب الشمس، فقال: إن كان في وقتٍ لا يخاف فَوْت إحداهما فليصلِّ الظّهر، ثم ليصلِّ العصر، وإن هو خافَ أنْ تفوتَه فَلْيبدأ بالعصر، ولا يؤخِّرُها فتفوته، فتكون قد فاتتاه جميعاً، ولكن يصلّي العصر فيما قد بقي من وقتها، ثمّ ليصلِّ الأُولى بعد ذلك، على أثرها»[i]f181.
وهي واضحةُ الدَّلالة، لأنَّ الحكم بفواتهما معاً لا بدّ أن يكون لبطلان الظهر من جهة وقوعها في غير الوقت، إلاَّ أنّها ضعيفة لتردّد ابن سنان بين محمد الضعيف وعبد الله الثقة، بل الظاهر كونه محمّداً، لأنَّه غالبا ما يروي عن ابن مسكان، ويروي عنه الحسين بن سعيد، فالتعبير عنها بالصحيحة، كما في المُسْتَمْسَك، وبالقوي كما في الجَوَاْهِر في غير محله.
ومنها: صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: إن نام رجلٌ أو نسِيَ أن يصلّيَ المغرب والعشاء الآخرة، فإنِ استيقظَ قبل الفجر قدر ما يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما، وإن خاف أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، وإن استيقظ بعد الفجر فليصلِّ الصبحَ، ثمَّ المغربَ، ثمَّ العشاءَ الآخرة، قبل طلوع الشَّمس»[ii]f182، بناءً على عدم القول بالفصل بين العشاءَيْن والظُّهرَيْن، فإذا ثَبَت الاختصاص في العشاءَيْن ثَبَت في الظُّهرَيْن.
ومنها: الأخبار[iii]f183 المستفيضة في أنَّ الحائضَ إنَّما يجب عليها صلاةُ العصرِ خاصَّةً إذا طهرت وقت العصر.
ومنها: صحيحة إسماعيل بن همَّام عن أبي الحسن عليه السلام «أنَّه قال في الرجل يؤخِّر الظُّهر حتَّى يدخل وقت العصر: أنَّه يبدأُ بالعصرِ، ثمَّ يصلِّي الظُّهر»[iv]f184.
وأمّا القول بالاشتراك فيُستدلّ له بعدّةِ أخبارٍ:
منها: رواية عُبيد بن زرارة المتقدِّمة ««قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن وقتِ الظهرِ، والعصر، فقال: إذا زالتِ الشَّمسُ فقد دخل وقت الظُّهر والعصر جميعاً، إلاَّ أنَّ هذه قبلَ هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتَّى تغيبَ الشَّمس»[v]f185، ولكنّها ضعيفة بعدم وثاقة القاسم بن عروة.
ومنها: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام «قال: إذا زالتِ الشَّمس دخَل الوقتان: الظّهر والعصر، فإذا غابتِ الشَّمسُ دخَل الوقتان: المغرب والعشاء الآخرة»[vi]f186.
ومنها: رواية سُفيان بن السّمط عن أبي عبد الله عليه السلام «قال: إذا زالتِ الشّمس فقد دخل وقت الصَّلاتَيْن»[vii]f187، ولكنَّها ضعيفة بجهالة سُفيان بن السمط.
ومنها: رواية مالك الجهني «قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن وقت الظّهر، فقال: إذا زالتِ الشمس فقد دخَل وقتُ الصَّلاتَيْن»[viii]f188، وهي ضعيفة أيضاً بعدم وثاقة مالك الجهني.
ومنها: موثّقة منصور بن يونس عن العبد الصالح عليه السلام «قال: سمعته يقول: إذا زالتِ الشَّمسُ فقد دخَل وقت الصَّلاتَيْن»[ix]f189، وهي موثقة، وليست ضعيفة، لأنّ المراد من محمّد بن زياد الواقع في السند هو ابن أبي عمير الثقة، وكذا غيرها.
إذا عرفت ذلك فنقول: قد أوّل جماعة من الأعلام الروايات الدَّالة على الاشتراك بعدّةِ تأويلاتٍ:
منها: أنّ قوله عليه السلام: «إلاَّ أنَّ هذه قبلَ هذه» يدلّ على أنّ المراد بالاشتراك ما بعد الاختصاص.
ومنها: أنّه لمَّا لم يكن للظهر وقت مقدَّر، بل أيّ وقتٍ فُرِض وقوعها فيه أمكَن فَرْض وقوعها فيما هو أقلّ منه، حتّى لو كانت الظهر تسبيحةً، كصلاة شدَّة الخوف، كانت العصر بعدها، ولأنَّه لو ظنّ الزَّوال، ثمَّ دخَل الوقت قبل إكمالها بلحظة أمكن وقوع العصر في أوّل الوقت، إلاّ ذلك القدر فلقلّة الوقت وعدم ضبطه كان التعبير عنه بما ذكر في الرواية من ألخص العبارات، وأحسنها.
ومنها: أنَّ المراد بدخول وقت الصَّلاتَيْن، دخول وقت المجموع من حيث هو مجموع على سبيل التوزيع.
بل قد يُقال: إنَّ هذا هو الذي يقتضيه ترتّب العصْر على الظُّهر، المستفاد من قوله عليه السلام: «إلاَّ أنَّ هذه قبلَ هذه»، فإن مقتضاه: كون حال صلاة العصْر حال الركعة الثانية من صلاة الظهر التي يمتنع دخول وقتها إلاَّ بعد مضي مقدار ركعة من الزَّوال، وكالتشهد، والتسليم الواقعَيْن في آخر الصلاة الذي لا يدخل وقتهما إلاَّ بعد مضي مقدار ما تقدّمهما من الأجزاء.
واستشهد بعض الأعلام أيضاً لإرادة دخول وقتهما على سبيل التوزيع بما ورد في صحيح زرارة السابق: «إذا زالت الشَّمس دخل الوقتان، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان»، ولفظ «الوقتان» حقيقة في وقتَيْن متعدِّدَيْن، ومحال دخول وقتَيْن كذلك بمجرد الزَّوال والغروب، إلاَّ على سبيل التوزيع.
والإنصاف: أنَّ المراد بدخول الوقتَيْن دخول وقت الصَّلاتين، أي الوقت الذي اعتبره الشارع شرطاً لصحّتهما على تقدير استجماعهما لسائر الشرائط المعتبرة فيهما، ولا استحالة في دخول وقت العصر بهذا المعنى بمجرد الزوال، وكون العصرِ مرتّبةً على الظُّهر لا يصلح مانعاً عن صلاحيّة الوقت من حيث هو، لِفِعْلها على تقدير استجماعها لشرائط الصحَّة التي منها الترتيب.
ويظهر أثر كون الوقت صالحاً للفعل: فيما لوِ انتفت شرطيّة الترتيب، كما لو غفل عن الظهر، أو اعتقد فِعْلها فصلّى العصر، أو فعلها بزعم دخول الوقت، ثمَّ أتى بالعصْر بعدها؛ فانكشف بعد الفراغ وقوع العصْر في أوّل الوقت، والظهر قبله.
ويظهر أثره أيضاً فيما إذا حصلت براءة الذمّة عن الظهر، ولو بمقتضى ظاهر التكليف قبل مضي مقدار أدائها من أوّل الوقت، كما لوِ اعتقد دخول الوقت، فصلّى الظُّهر، ثمّ دخَل الوقت في آخر صلاته، قبل إكمالها بلحظة، فإنّه تصحّ صلاة الظُّهر في الفرض؛ فله الدخول حينئذٍ في صلاة العصْر.
ولا يخفى عليك: أنّ هذا لا يجتمع مع القول بالاختصاص، بل عليه لا يدخل وقتها إلاّ بعد مضي مقدار أداء الظهر، فإنّه يجب على هذا التقدير الصبر إلى أن يعلم، أو يظنّ بمضيّ هذا المقدار من الزَّوال.
والخلاصة: أنّ أغلبَ أخبار الباب بظاهرها تنطبق على مذهب القائلَيْن بكون الوقت مشتركاً بين الصَّلاتَيْن من أوّل الزَّوال، إذا كان مرادهم مجرد الشأنية والصلاحيّة بالنسبة إلى صلاة العصْر، كما هو الظاهر من كلامهم، حيث التزموا باشتراط الترتيب، وصرَّحوا: بأنَّ هذه قبل هذه، لا وقتها الفعلي الذي يكون المكلّف مأموراً بإيقاعها فيه.
وبالجملة: لم يعلم من المشهور القائلين باختصاص أوّل الوقت بالظهر إنكار صلاحيّة الوقت من حيث هو للعصْر، بحيث لو فرض سقوط التكليف بالظهر، أو انتفاء شرطيّة الترتيب لأوجبوا الصبر إلى أن تمضي مدَّة الاختصاص، فإنَّ من المحتمل قويّاً إرادة كثير منهم الوقت الفعليّ الذي يكون المكلّف مأموراً بأن يصلّي فيه العصر غير المنافي لصلاحيّة الوقت قبله، لصحتها على بعض التقادير.
ومن هنا تعرف أن المراد من قولهم عليه السلام: «إلاَّ أنَّ هذه قبلَ هذه» أي: إنّ الوقت الفعلي لصلاة الظُّهر قبل صلاة العصر، وليس المراد إنكار صلاحيّة أوّل الوقت لفعل العصر مطلقاً، حتّى مع فرض انتفاء شرطيّة الترتيب، أو سقوط التكليف بالظُّهر.
[i] الوسائل باب 4 من أبواب المواقيت ح18.
[ii] الوسائل باب 62 من أبواب المواقيت ح4.
[iii] الوسائل باب 49 من أبواب الحيض.
[iv] الوسائل باب 4من أبواب المواقيت ح17.
[v] الوسائل باب 4 من أبواب المواقيت ح5.
[vi] الوسائل باب 4 من أبواب المواقيت ح1.
[vii] الوسائل باب 4 من أبواب المواقيت ح9.
[viii] الوسائل باب 4 من أبواب المواقيت ح11.
[ix] الوسائل باب 4 من أبواب المواقيت ح10.
|