بقي الكلام في حكم الاضطراب في السند والمتن:
إعلم أوّلاً: أنّه لا بدّ من بيان حقيقة الاضطراب، ثمّ نرى أنّه مضرّ في الصحّة أم لا.
وقد ذكر الشهيد الثاني رحمه الله: «أنّ الحديث المضطرب هو ما اختلف راويه فيه، فيروي مرّة على وجه، وأخرى على وجه آخر مخالف له. ثمّ قال: ويقع في السند بأن يرويه الراوي تارةً عن أبيه، عن جدّه مثلاً، وتارةً عن جدّه بلا واسطة، وثالثة عن ثالث غيرهما، كما اتفق ذلك في رواية أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) بالخط للمصلي سترة حيث لا يجد العصا، ويقع في المتن كخبر اعتبار الدم عند اشتباهه بالقرحة بخروجه من الجانب الأيمن فيكون حيضاً أو بالعكس... الخ»[1].
أقول: أمّا صورة الاضطراب في السند في الحديث النبوي الذي أشار إليه الشهيد الثاني رحمه الله، فهو هكذا على ما حكاه بعض محققي أهل الدراية من العامة، حيث ذكر أنّ أحد رواته رواه تارةً عن أبي عمرو محمد بن حريث بسائر الإسناد. وتارةً عن أبي عمرو بن حريث عن أبيه بالإسناد. وثالثة، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث عن جدّه حريث بن سليم بالإسناد. ورابعة، عن أبي عمرو بن حريث عن جده حريث. وخامسة، عن حريث بن عمار بالإسناد. وسادسة، عن أبي عمرو بن محمد عن جدّه حريث بن سليمان. وسابعة، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث عن جدّه حريث... الخ.
ولا يخفى عليك، أنّه لا يوجد في أحاديثنا مثل هذا الاضطراب، وقد مثّل السيوطي في تدريب الراوي للاضطراب في السند بحديث أبي بكر أنّه قال: «يا رسول الله أراك شبت. قال: شيّبتني هود وأخواتها»[2].
قال الدارقطني: «هذا مضطرب، فإنّه لم يروَ إلا عن طريق أبي إسحاق السبيعي وقد اختلف فيه على نحو عشرة أوجه فمنهم من رواه مرسلاً، ومنهم من رواه موصولاً، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر، ومنهم من جعله من مسند سعد، ومنهم من جعله مسند عائشة، ونحو ذلك ورواة الحديث عندهم ثقات»[3].
أقول: مقتضى الإنصاف: أنّ اضطراب الخبر في السند أو في المتن لا يمنع من صحّة الرواية إذا كانت مستجمعة لباقي الشرائط. خلافاً للشهيد الثاني رحمه الله، حيث يجعل الاضطراب في السند يلحق الخبر الصحيح بالضعيف.
ثمّ إنّه قد اختلف الأعلام فيما إذا كانت النسخ مختلفة. كالحديث الذي ورد في تمييز الدم المشتبه بالقرحة، حيث إنّه في نسخة الكافي يكون حيضاً إذا خرج من الجانب الأيمن، وفي نسخة الشيخ إذا خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة.
فهل هو من باب اشتباه الحجّة بغير الحجّة للعلم بعدم صدور كلّ منهما عن الإمام عليه السلام، أو أنّه ليس من باب اشتباه الحجّة بغير الحجّة، بل نظير ما إذا حكم الإمام عليه السلام بحكم في مجلس واحد وخرج عنه الراويان ثمّ اختلفا، فروى أحدهما الحكم بنحو يخالف نقل الآخر فيدخل في باب التعارض.
وإن كان الأقرب، أنّه من باب اشتباه الحجّة باللاحجّة، لأنّ الراوي لم ينقل إلاّ أحد المتنين، وإنّما وقع الاشتباه من بعده.
ثمّ إنّك قد عرفت، أنّ الشهيد الثاني رحمه الله قال: «قد يطلق الصحيح عندنا على سليم الطريق من الطعن بما ينافي الأمرين. وهما كون الراوي باتصال عدلاً إمامياً، وإن اعتراه مع ذلك الطريق السالم إرسال أو قطع. وبهذا الاعتبار يقولون كثيراً: (روى ابن أبي عمير في الصحيح كذا) أو (في صحيحته كذا) مع كون روايته المنقولة كذلك مرسلة...
إلى أن قال: وفي الخلاصة وغيرها: إنّ طريق الفقيه إلى معاوية بن ميسرة، وإلى عائذ الأحمسي، وإلى خالد بن نجيح، وإلى عبد الأعلى مولى آل سام، صحيح. مع أنّ الثلاثة الأول لم ينصّ عليهم بتوثيق، ولا غيره، والرابع لم يوثّقه... الخ»[4].
وفيه: أنّ ما استشهد به من أنّهم يقولون روى ابن أبي عمير في الصحيح كذا أو في صحيحته كذا مع كون روايته المنقولة كذلك مرسلة أو مقطوعة. ممّا لم يعثر عليه، كما اعترف به الشيخ حسن رحمه الله في منتقى الجمان، وإنّما يقال: (روى الشيخ أو غيره في الصحيح عن ابن أبي عمير).
وبين الصورتين فرق واحد، فإنّ الموصوف بالصحّة طريق الشيخ إلى ابن أبي عمير دون ابن أبي عمير ولا من بعده ولو دخل ابن أبي عمير فإنّما هو لقرينة خارجية، ولكن العبارة غير دالّة عليه.
وأمّا حال من بعد ابن أبي عمير، فالعبارة ساكتة عنه.
وهذا، بخلاف ما إذا قيل: روى ابن أبي عمير في الصحيح، فالصحّة تقع فيها وصفاً لمجموع الطريق من ابن أبي عمير ومن بعده.
وأمّا ما استشهد به بما جاء في الخلاصة، من أنّ طريق الفقيه إلى معاوية بن ميسرة وعائذ الأحمسي وخالد بن نجيح وعبد الأعلى، صحيح، مع أنّ الثلاثة الأول لم ينصّ عليهم بتوثيق والرابع ضعيف، فغير تامّ، لأنّ الصحّة وصف للطريق إلى هؤلاء، والمفروض أنّه صحيح، وأمّا نفس هؤلاء فخارج عن مدلول الكلام.
[1] منتقى الجمان، ج1، ص8، 9.
[2] أضواء على السنة المحمدية، ص288.
[3] أضواء على السنة المحمدية، ص288، 289.
[4] الرعاية في علم الدراية، ص79، 80.
|