وأمّا أدلّة المجوّزين:
فمنها: الأدلّة اللفظية من الآيات والأخبار فإنها مطلقة، إذ لم تقيّد بكون الفتوى من الفقيه الحيّ. وعليه، فلا فرق في حجّية الفتوى بين كونها من الحيّ أو الميّت. وفيه: أوّلاً: انه لا إطلاق فيها من هذه الجهة. فمثلاً، آية "النفر" المستدل بها سابقاً على حجّية الفتوى، وكذا آية "السؤال" -بناءً على دلالتها على ذلك- فقد دلّت الأولى على وجوب الحذر عند إنذار الفقيه. والآية الثانية على وجوب السؤال من أهل الذكر. ومن المعلوم، أن القضايا ظاهرة في الفعلية، فإذا قلت: ((يجب إكرام العالم))، فإنها ظاهرة في أن من كان متصفاً بالعلم فعلاً هو الذي يجب إكرامه، لا من كان عالماً سابقاً، والآن قد زال عنه التلبس به. وهكذا الحال فيما نحن فيه، فإن من كان متصفاً بالإنذار فعلاً أو بالفقاهة وغيرهما من العناوين فعلاً هو الذي يجوز تقليده. ومن المعلوم، أن الميّت لا يتصف بالإنذار فعلاً أو أنه من أهل الذكر فعلاً وان كان منذراً أو من أهل الذكر سابقاً. وبالجملة، فإن الميّت لما لم يكن منذراً أو من أهل الذكر فعلاً، فلا تشمله الأدلة القائمة على حجّية فتوى المنذر. وممّا ذكرنا يظهر حال الروايات المستدل بها على حجّية الفتوى.
وثانياً: لو سلّمنا كونها مطلقة ولم نناقش في ذلك، إلّا أنه من المعلوم، أن أدلة حجّية الفتوى لا تشمل الفتاوى المختلفة، إذ الإطلاق لا يشمل المتعارضين، فلا بدّ من التساقط.
ومنها: قيام السيرة وبناء العقلاء على الرجوع إلى الأموات ابتداء. وفيه: ان دعوى السيرة وبناء العقلاء على الرجوع إلى الأموات ابتداء عهدتها على مدّعيها بل هذه الدعوى جزافية. نعم، إذا كان الميّت أعلم من الأحياء. فالإنصاف، ان السيرة قائمة على الرجوع إليه. بل قد يقال إن مقتضى بناء العقلاء هو لزوم تقليده تعييناً. إلّا أنّك عرفت، أن هناك تسالماً بين الأعلام على عدم تقليد الميّت ابتداء، فيكون هذا التسالم مانعاً من ذلك، وبهذا يكون بناء العقلاء مردوعاً.
ومنها: الاستصحاب. وقد قرّره صاحب التقريرات بوجوه ثلاثة. قال: «الثالث الاستصحاب وتقريره من وجوه فإنه تارة يراد انسحاب الحكم المستفتي فيه. وأخرى يراد انسحاب حكم المستفتى. وثالثة يراد انسحاب حكم المفتي. فعلى الأخير يقال إن المجتهد الفلاني كان ممّن يجوّز الأخذ بفتواه والعمل في الخارج مطابقاً لأقواله وقد شُك بعد الموت انه هل يجوز إتباع أقواله أو لا فيستصحب، كما أنه يستصحب ذلك عند تغيّر حالاته من المرض والصّحة والشباب والشيب ونحوها؟
وعلى الثاني، يقال إن للمقلّد الفلاني الأخذ بفتوى المجتهد الفلاني حال الحياة وبعد الموت، نشك فيه فنستصحب الجواز المعلوم في السابق.
وعلى الأوّل، يقال إن هذه الواقعة كان حكمها الوجوب بفتوى المجتهد الفلاني، ونشك في ذلك فنستصحب حكمها». (انتهى كلامه). كاستصحاب وجوب السورة أو حرمة العصير أو نجاسة الخمر، ونحو ذلك من الأحكام.
أقول: اقتصر جماعة من الأعلام على الوجه الثالث الذي ذكره في التقريرات. ومنهم صاحب الكفاية، حيث قال: «ومنها استصحاب جواز تقليده في حال حياته». (انتهى كلامه). وهو عبارة عن استصحاب حجّية فتواه.
وأمّا استصحاب حكم المستفتي أي أن المقلّد الفلاني كان يجوز له العمل على طبق فتواه، وكذا استصحاب الحكم المستفتى فيه الذي هو عبارة عن استصحاب الأحكام من نحو وجوب السورة في الصلاة وحرمة العصير العنبي ووجوب القصر في الثمانية الملفقة من الذهاب والإياب ونحو ذلك. فلم يذكره صاحب الكفاية وجماعة من الأعلام.
ونحن نقتصر على تقرير الاستصحاب بالوجه الثالث الذي ذكره صاحب التقريرات وجماعة من الأعلام، وهو استصحاب حكم المفتي أي حجّية فتواه، فإنه المهم، وقد نتعرض لاستصحاب حكم المستفتى فيه في مسألة البقاء على تقليد الميّت.
وحاصله: ان فتوى المجتهد قبل موته كانت حجّة فيشك بعد موته في بقائها على حجّيتها فنستصحب حجّيتها.
أقول: يرد على هذا الاستصحاب ثلاث إشكالات:
الاشكال الأوّل: انه من استصحاب الأحكام الكلّية، وقد عرفت الإشكال في جريانها. ووجه كونه من استصحاب الأحكام الكلّية هو أننا نشك في سعة الحجّية المجعولة وضيقها، هل تختص بحال حياة المجتهد أم أنها تشمل فتواه بعد موته؟
|