ثمَّ إنَّ الاستدلال بهذه الموثَّقة أو الصَّحيحة مبني على الشِّراء من الزَّكاة قبل عزلها وفرزها خارجاً ليكون ذلك دفعاً للقيمة بعنوان الزَّكاة.
وأمَّا لو كان المراد هو الشِّراء بعد العزل والفرز خارجاً فلا تدلُّ على المطلوب حينئذٍ، لأنَّه لا يكون إعطاءً للقيمة بعنوان الزكاة، وإنَّما هو تبديل الزكاة المتعينة بالعزل خارجاً بجنس آخر.
ويبدو أنَّ هذا الاحتمال أقوى من الأوَّل، وبما أنَّ المالك لا ولاية له على الفقير، بحيث يتصرف في ماله بمثل هذه التصرفات فاحتاج إلى الاستجازة من الإمام (عليه السلام) في التصرف المزبور.
وممَّا يشهد لهذا الاحتمال قوله: «فاشترى لهم فيها أي من الزَّكاة ».
وأمَّا على الاحتمال الأوَّل فالأنسب أن يقول: فأشتري لهم من مالي وأعطيه بعنوان الزَّكاة.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ هذه الرّواية لا تدلّ على جواز إخراج القيمة في الزّكاة عن الذّهب والفضّة والغلاّت، والله العالم.
الأمر الثَّاني: المعروف بين الأعلام جواز إخراج القيمة في الأنعام أيضاً، بل في الخلاف والغنية وعن ظاهر الانتصار والاقتصاد والسّرائر الإجماع عليه.
وفي المقابل، حكي عن الشّيخ المفيد (رحمه الله) في المقنعة أنَّه قال: «لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الأنعام، إلاّ أن تعدم الأسنان المخصوصة في الزّكاة».
وعن المحقّق (رحمه الله) في المعتبر الميل إليه، بل ذهب إلى القول: بالمنع عن إخراج القيمة في زكاة الأنعام مع وجود الأسنان المخصوصة غير واحد من متأخّري المتأخّرين، كصاحبي المدارك والحدائق (رحمهم الله)، وغيرهما.
ثمَّ إنَّه استدلّ للقول الأوّل المشهور بين الأعلام بعدّة أدلّة:
منها: ما عن الشّيخ (رحمه الله) في الخلاف من دعوى إجماع الفرقة وأخبارهم.
وردّه المحقّق (رحمه الله) في المعتبر بمنع الإجماع، وعدم دلالة الأخبار على موضع النّزاع.
أقول: قد عرفت في أكثر من مناسبة أنَّ الإجماع المحصّل غير حاصل؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الأدلّة المذكورة في المسألة.
وأمّا الإجماع المنقول بخبر الواحد، فهو غير حجّة، وهو يصلح للتّأييد فقط.
وأمّا رد الأخبار فهو في غير محلّه؛ لإمكان الاستدلال بصحيحة البرقي وغيرها ممّا سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: ما ذكره العلاّمة (رحمه الله) في المنتهى من أنّ المقصود بالزّكاة دفع الخلّة وسدّ الحاجة، وهو يحصل بالقيمة كما يحصل بالعين.
ومنها أيضاً: ما ذكره العلاّمة (رحمه الله) في المنتهى من أنّ الزكاة إنّما شرعت جبراً للفقراء ومعونةً لهم، وربّما كانت القيمة أنفع في بعض الأوقات فاقتضت الحكمة التّسويغ.
ويرد عليه: أنَّ هذه حكم وعلل مستنبطة لا تصلح للاستدلال، وإنّما تصلح للتّأييد فقط.
ومنها: صحيحة البرقي المتقدِّمة، فإنَّ مورد السّؤال فيها، وإن كان خصوص الحرث من الحنطة والشّعير، والذّهب، إلاّ أنَّ ذلك من باب المثال، والمقصود بالسّؤال هو الاستفهام عن أنَّه هل يجب أن يخرج من كلّ شيء تجب فيه الزّكاة ما يجب فيه بعينه؟ أم يجوز إخراج قيمتها من الدّراهم مثلاً؟ فيستفاد من قوله (عليه السلام): «أيما تيسّر» عموم الجواز في الجميع.
وممّا يؤكّد أنَّ مورد السّؤال إنّما هو من باب المثال: عدم ذكر التّمر والزّبيب، مع أنَّ الإشكال عند الأعلام في كون حكمهما حكم الحنطة والشّعير.
والخلاصة: أنَّ هذا الدَّليل قويّ.
ومنها: ما دلَّ على جواز احتساب الدَّين الذي له على الفقير ممَّا عليه من الزَّكاة، الشَّامل بإطلاقه لجميع صور المسألة، ففي صحيحة عبد الرَّحمان بن الحجاج «قال : سألت أبا الحسن الأوّل (عليه السلام) عن دَين لي على قوم، قد طال حبسه عندهم، لا يقدرون على قضائه، وهم مستوجبون للزَّكاة، هل لي أن أدعَه، فأحتسبُ به عليهم منَ الزَّكاة؟ قال: نعم»([1])، وكذا غيرها من الرِّوايات.
ومنها أي من جملة الأدلَّة الدالَّة على جواز إخراج القيمة في الأنعام : موثَّقة يونس بن يعقوب أو صحيحته المتقدِّمة، حيث إنّها دالَّة بإطلاقها على جواز إخراج القيمة في الأنعام أيضاً.
ولكنَّك عرفت الإشكال في دلالتها على جواز إخراج القيمة في الغلات والنقدين فضلا عن الأنعام.
ومنها: ما دلَّ على جواز صرف الزَّكاة في الأصناف الثَّمانية، حيث إنَّ الغالب تعذَّر صرف عين الفريضة أو تعسُّره في الأصناف الثَّمانية، من غير تبديل أو تغيير في العين، خصوصاً إذا كانت من جنس الأنعام، إذ كيف يتمكن من صرف بنت المخاض أو بنت اللَّبون بعينها في عمارة المسجد وبناء القناطر ومعونة الحاجّ وأداء مال الكتابة وفكاك الرّقاب ووفاء دين الغارمين الذين لا يبلغ دينهم هذا المبلغ.
وبالجملة، فإنَّ المالك يجوز له أن يتولّى صرف الزَّكاة بنفسه إلى مصارفها، وحيث جاز له الصّرف جاز له الإبدال بالقيمة، بل قد يجب ذلك كما لو انحصر المصرف فيما لا يمكن صرفها إليه إلاَّ بالقيمة، ومتى جاز له الإبدال لم يتفاوت الحال في ذلك بين أن يبيعها من شخص آخر، ويصرف ثمنها في مصرفها، أو يخرج قيمتها ابتداءً بدلاً عمَّا وجب عليه.
والخلاصة في نهاية المطاف: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من الأعلام هو الصَّحيح، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 46 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
|