ثمَّ إنَّه بقي الكلام في جواز أخذ المهزولة فيما لو كانت كلّها سمينةً، أو بعضها مهزولاً والآخر سميناً، فقد يقال: بجواز إخراجها للأصل.
اللهمَّ إلاَّ إذا كانت داخلةً في ذات العِوار، أي كانت معيبةً، فتكون داخلةً في الصَّحيحتين المتقدِّمتين، كما لا يبعد ذلك، وأمَّا لو كانت كلّها مهازيل فلا إشكال في جواز الإخراج منها، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا الأردأ والأجود، بل الأوسط(1)
(1) ذكر جماعة من الأعلام منهم المصنِّف (رحمه الله) أنَّ الواجب إخراج الوسط الذي يصدق عليه اسم الفريضة، فلا يكلَّف الأعلى ولا يجزيه الأدنى؛ لأنَّه المنساق إلى الذهن من أمثال هذه الخطابات، أي أنَّه لا ريب في الانصراف إلى الوسط.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذا الانصراف بدوي يزول بالتأمل، فيكفي ما يصدق عليه اسم الفريضة، ولو كان الأردأ، نعم الأحوط إخراج الجيد.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والخيار إلى المالك. وقال الشَّيخ: يُقرَع(2)
(2) المعروف بين الأعلام أنَّ الخيار إلى المالك، وليس للسَّاعي التخيير؛ إذ ليس له إلاَّ مطالبة المالك بالخروج عن عهدة الزَّكاة التي أوجبها الله عليه في ماله، فإذا دفع إليه المالك شيئاً ممَّا يندرج في مسمَّى الفريضة التي أمره الله بإخراجها من ماله فليس له الامتناع من قبوله.
ويدلُّ عليه: ما ورد في آداب المصدِّق، ففي حسنة بريد بن معاوية «قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) مصدِّقاً من الكوفة إلى باديتها، فقال له: يا عبد الله، اِنطلق وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، ولا تُؤثِر دنياك على آخرتك، وكُنْ حافظاً لِمَا ائتمنتك عليه، راعياً لحقِّ الله فيه، حتَّى تأتي نادي بني فلان، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امضِ إليهم بسكينة ووقار حتَّى تقوم بينهم فتسلِّم عليهم، ثمَّ قل لهم: يا عباد الله، أرسلني إليكم وليُّ الله لآخذ منكم حقَّ الله في أموالكم، فهل ﷲ في أموالكم من حقِّ فتؤدُّوه إلى وليِّه؟ فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منهم مُنعِم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تَعِدَه إلاَّ خيراً، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلاَّ بإذنه فإن أكثره له، فقل: يا عبد الله، أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن لك فلا تدخله دخول متسلِّط عليه فيه، ولا عنف به، فاصدع المال صدعين، ثم خيِّره أيَّ الصَّدعين شاء، فأيُّهما اختار فلا تعرض له، ثمَّ اصدع الباقي صدعين، ثمَّ خيِّره، فأيُّهما اختار فلا تعرض له، ولا تزال كذلك حتَّى يبقى ما فيه وفاء لحقِّ الله في ماله، فإذا بقي ذلك فاقبض حقَّ الله منه، وإن استقالك فأقله، ثمَّ اخلطهما واصنع مثل الذي صنعت أوَّلاً حتَّى تأخذ حقَّ الله في ماله...»([1]).
وأمَّا القول: باستعمال القرعة حتَّى السنّ التي تجب بأن يقسم ما جمع الوصف قسمين، ثمَّ يقرع بينهما، ثمَّ يقسم ما خرجت عليه القرعة، وهكذا حتى يبقى قدر الواجب فهو للشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف وجماعة من الأعلام.
ولكنَّ هذا القول ضعيف لا دليل عليه، بل يمكن دعوى القطع بخلافه، وذلك بملاحظة ما ورد في دفع المالك الزكاة وصرفها على الفقراء بنفسه وشرائه لهم ما يحتاجون، وغير ذلك، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وتجبر السنُّ النَّاقصة في الإبل بشاتين أو عشرين درهما فتساوي تاليها. وقيل: الجبر بشاة، ويدفع السَّاعي ذلك في الزَّائدة(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنّ مَنْ وجبت عليه سنٌّ من الإبل وليست عنده، وعنده أعلى منها بسنٍّ، دفعها وأخذ من السَّاعي أي المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً، وإن كان عنده أخفض منها بسنٍّ دفع معها شاتين أو عشرين درهماً، وهذا هو المراد من جبر السنِّ النَّاقصة.
وفي المدارك: «هذا قول علمائنا أجمع، قاله في التَّذكرة، ووافقنا عليه أكثر العامَّة...»، وفي الحدائق : «والحكم مجمع عليه بينهم فيما أعلم»، وفي الجواهر: «على المشهور بين الأصحاب شهرةً عظيمةً، بل في الغنية والمنتهى والتَّذكرة ومجمع البرهان والمدارك والمفاتيح والذَّخيرة والحدائق الإجماع عليه..».
أقول: هناك تسالم بين الأعلام قديماً وحديثاً، بحيث لم ينسب الخلاف في المسألة إلاَّ إلى الشَّيخ الصَّدوق ووالده علي بن بابويه (رحمهما الله)، حيث جعلا التَّفاوت بين بنت المخاض وبنت اللَّبون شاة يأخذها المصدِّق أو يدفعها، ومخالفتهما لا تضرُّ بالتَّسالم الموجب للقطع بالمسألة.
ثمَّ إنَّه قد استدلَّ مضافاً إلى التّسالم بينهم بروايتين:
الأولى: صحيحة زرارة المروية في الفقيه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث زكاة الإبل «قال: وكلُّ مَنْ وجبت عليه جذعة، ولم تكن عنده، وكانت عنده حقَّة: دفعها ودفع معها شاتين أو عشرين درهماً؛ ومَنْ وجبت عليه حِقَّة، ولم تكن عنده، وكانت عنده جذعة: دفعها وأخذ من المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً؛ ومَنْ وجبت عليه حِقَّة، ولم تكن عنده، وكانت عنده ابنة لَبُون: دفعها ودفع معها شاتين أو عشرين درهماً؛ ومَنْ وجبت عليه ابنة لَبُون، ولم تكن عنده، وكانت عنده حِقَّة: دفعها وأعطاه المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً؛ ومَنْ وجبت عليه ابنة لَبُون، ولم تكن عنده، وكانت عنده ابنة مخاض: دفعها وأعطى معها شاتين أو عشرين درهماً؛ ومَنْ وجبت عليه ابنة مخاض، ولم تكن عنده، وكانت عنده ابنة لَبُون: دفعها وأعطاه المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً؛ ومَنْ وجبت عليه ابنة مخاض، ولم تكن عنده، وكان عنده ابن لَبُون ذَكَر: فإنَّه يقبل منه ابن لَبُون، وليس يدفع معه شيئاً»([2]).
الثانية: رواية الكلني في الكافي عن عليِّ بن إبراهيم عن أبيه عن محمَّد بن عيسى عن يونس عن محمَّد بن مقرن بن عبد الله بن زمعة بن سُبيع عن أبيه عن جدِّه عن جدِّ أبيه «أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كَتَب لَهُ في كتابه الذي كَتَب له بخطِّه حين بعثه على الصَّدقات: مَنْ بلغت عنده من الإِبل صدقة الجذعة، وليس عنده جذعة، وعنده حِقَّة، فإنَّه يُقبَلُ منه الحِقَّة، ويجعل معها شاتين أو عشرين درهماً، ومَنْ بلغت عنده صدقة الحِقَّة، وليست عنده حِقَّة، وعنده جذعة، فإنَّه تُقبَل منه الجذعة، ويعطيه المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته حِقَّة، وليست عنده حِقَّة، وعنده ابنة لَبُون، فإنَّه يُقبَل منه ابنة لبون، ويعطي معها شاتين، أو عشرين درهماً، ومَنْ بلغت صدقته ابنة لبون، وليست عنده ابنة لبون، وعنده حِقَّة، فإنَّه يُقبَل منه الحِقَّة، ويعطيه المصدّق شاتين أو عشرين درهماً، ومَنْ بلغت صدقته ابنة لبون، وليست عنده ابنة لبون، وعنده ابنة مخاض، فإنَّه يُقبَل منه ابنة مخاض، ويُعْطِي معها شاتين أو عشرين درهماً، ومَنْ بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده ابنة مخاض، وعنده ابنة لبون، فإنَّه يُقبَل منه ابنة لبون، ويعطيه المصدِّق شاتين أو عشرين درهماً، ومَنْ لم يكن عنده ابنة مخاض على وَجْهِها، وعنده ابن لبون ذَكَر فإنَّه يُقبَل منه ابن لبون، وليس معه شيء...»([3])، ورواها أيضًا الشَّيخ (رحمه الله) في التَّهذيب، والشَّيخ المفيد (رحمه الله) في المقنعة، ولكنَّها ضعيفة بجهالة محمَّد بن مقرن، وأبيه وجده.
وأمَّا ما حُكِي عنِ الصَّدوقَيْن والحاكي هو العلاَّمة في المختلف من أنَّهما جعلا التَّفاوت بين بنت المخاض وبنت اللَّبون شاةً، يأخذها المصدِّق أو يدفعها؛ فقد عرفت أنَّه مخالف لجميع ما عرفت.
وفي الحدائق، قال: «وهذا أيضاً مأخوذ من كتاب الفِقه الرَّضوي، حيث قال (عليه السلام) في الكتاب المذكور بعد ذكر خمسة وثلاثين : فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون ومَنْ لم تكن عنده، وكانت عنده ابنة مخاض، أعطى المصدِّق ابنة مخاض، وأعطى معها شاةً، وإذا وجبت عليه ابنة مخاض، ولم تكن عنده، وكانت عنده ابنة لبون، دفعها واسترجع منَ المصدِّق شاةً».
وفيه ما ذكرناه في أكثر من مناسبة : من أنَّ الفِقه الرَّضوي فتاوى لابن بابويه (رحمه الله)؛ إلاَّ ما كان بعنوان: (قال)، أو (رُوِي)، فتكون روايةً مرسلةً.
وفي الجواهر: «نعم، قد يقوى ما في التَّذكرة والمسالك ومحكيِّ الميسيَّة من جواز الاكتفاء بشاة وعشرة دراهم، حملاً لِمَا في الخبرين المزبورَيْن على المثال، وإلاَّ كان جموداً مستهجناً».
وفيه: أنَّ الاستهجان لا يُوجِب رفع اليد عمَّا هو مذكور في النَّصِّ، وتنقيح المناط ليس بميسَّرٍ لنا، مع أنَّ ظاهر الرِّوايتَيْن أنَّ الحكم تعبُّدي محض، فيُقتَصر فيه على مورده.
ثمَّ إنَّه يظهر من الموجز وكشفه أنَّ الحكم مختصٌّ بما إذا كان القابض هو السَّاعي أوِ الإمام، دون الفقير أو الفقيه؛ لأنَّه نوع معاوضة.
وفيه أوَّلاً: أنَّ هذه ليست معاوضة حقيقيَّة، بل هي حكم شرعيٌّ، لا يتوقَّف إمضاؤه على رضا الفقير أو وليِّه.
وثانياً: لو سلَّمنا بذلك، فإنَّ الفقيه أيضاً كالسَّاعي في جواز أن يتأتَّى منه مثل هذه المعاوضة، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الأنعام ح1.
([2]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الأنعام ح1.
([3]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الأنعام ح2.
|