أمَّا من حيث الدَّلالة، فإنَّ استفادة حكم ثلاثمائة وواحدة من إطلاق قوله: «فإذا كثرت الغنم»، إنَّما هو لمناسبة المقام، وسَوْق الكلام لبيان حكم الغنم على الإطلاق الكاشف عن أنَّ المقصود بهذا العموم هو بيان حكم الغنم عند تجاوزه عن هذا الحدّ، وهذا غايته الظُّهور، وهو لا يصلح معارِضاً للنصِّ الصَّريح في الحسنة بأنَّه إذا زادت واحدة على الثَّلاثمائة ففيها أربع شياه.
وأمَّا من جهة الصُّدور؛ فلأنَّ صحيحة محمَّد بن قيس موافقة للتقيَّة، ومن المعلوم أنَّه إذا تعارضت الرِّوايتان فيؤخذ بالمخالف للعامَّة، وهي حسنة الفضلاء.
وعليه، فيتعيَّن العمل بها، كما هو المشهور، مع أنَّه أيضا يمكن حمل الكثرة الواقعة في صحيحة محمَّد بن قيس على بلوغ الأربعمائة، فيكون حكم الثَّلاثمائة وواحدة مسكوتاً عنه، فلا معارضة حينئذٍ بين الرِّوايتين.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وتظهر الفائدة في المحلِّ، ويتفرَّع عليه الضمان، وقد بيَّناه في شرح الإرشاد(1)
(1) ذكر الأعلام أنَّ هاهنا سؤالاً مشهوراً، وهو أنَّه إذا وجب أربع شياه عند بلوغها ثلاثمائة وواحدة، ولم تتغيَّر الفريضة حتَّى تبلغ خمسمائة، فأيُّ فائدة تترتَّب على جعل الأربعمائة نصاباً؟
وكذلك الكلام بالنِّسبة إلى الثَّلاثمائة وواحدة على القول الآخر، حيث لا يجب عندها إلاَّ ما يجب بالنِّصاب الذي قبلها، أي المائتان وواحدة، وهي ثلاث شياه، ولا تتغيَّر الفريضة على هذا القول حتى تبلغ أربعمائة، فيتوجَّه حينئذٍ على هذا القول أيضاً السُّؤال عن فائدة جعل الثَّلاثمائة وواحدة نصاباً مستقلاًّ؟
وقد أجاب المحقِّق (رحمه الله) وتبعه جملة من الأعلام عن هذا السُّؤال المشهور.
وحاصله: أنَّ الفائدة تظهر في الوجوب، أي محلّ الوجوب، وفي الضَّمان:
أمَّا الأوَّل: فإنَّه إذا كانت الأربعمائة نصاباً، فمحلُّ الوجوب مجموعها؛ إذِ المجموع نصاب، ومحلُّ الوجوب النِّصاب، ولو نقصت عن الأربعمائة، ولو واحدة، كان محلُّ الوجوب الثَّلاثمائة وواحدة والزَّائدة عفو.
ويترتَّب على ذلك: جواز التصرُّف وعدمه، فإنَّ الأربعمائة إذا كانت نصاباً، فمحلُّ الوجوب هو هذا المجموع؛ لأنَّ المجموع نصاب، فلا يجوز التصرُّف فيها قبل إخراج الزَّكاة.
وأمَّا إذا كان محلُّ الوجوب ثلاثمائة وواحدة، وكان عنده أكثر من هذا النِّصاب كما لو كان عنده ثلاثمائة وعشرون مثلاً فيجوز له التصرُّف حينئذٍ فيما زاد على الثَّلاثمائة وواحدة، وهكذا الحال على القول الآخر.
وفيه: أنَّ جواز التصرُّف فيما لو كان محلُّ الوجوب ثلاثمائة وواحدة، وعنده ثلاثمائة وعشرون مثلاً، مبني على القول بتعلُّق الزَّكاة بالعين على نحو الكلِّي في المعين الذي لازمه جواز التصرُّف في النِّصاب إلى أن يبقى مقدار الكلِّي، نظير ما لو باع صاعاً من صبّرة على نحو الكلِّي في المعين، حيث يجوز للبائع التصرُّف في تلك الصبّرة إلى أن يبقى منها مقدار الصَّاع.
وأمَّا على القول بتعلق الزكاة بالعين على نحو الإشاعة والشركة الحقيقيَة، بحيث يكون كلُّ جزء من العين الزكويَّة مشتركاً بين المالك والفقير، فكلّ حبّة من الحنطة والشّعير مثلاً للفقير فيها سهم بنسبة معيّنة، فلا يجوز التصرُّف حينئذٍ حتى فيما لو كان محلُّ الوجوب ثلاثمائة وواحدة، وكان عنده أكثر من ذلك، فلا تظهر الثمرة بين القول بأنَّ محل الوجوب هو الأربعمائة أو محلّ الوجوب هو الثَّلاثمائة وواحدة.
والذي يهوِّن الخطب: أنَّه سيأتي إن شاء الله تعالى أنَّ تعلّق الزَّكاة بالعين إنّما هو على نحو الشّركة في الماليّة، ولازمه جواز التصرّف في الكلّ، ودفع الزّكاة من جنس آخر، فلا تظهر الثّمرة في محلّ الوجوب، بل يجوز التصرّف، سواء كان محلّ الوجوب الأربعمائة أو الثّلاثمائة وواحدة.
|