قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس:
ولكنِ اختلف الأعلام في أنَّه هل يستقرُّ الوجوب بدخول الشَّهر الثَّاني عشر، أو يبقى متزلزلاً إلى أن يُكمِل الثَّاني عشر، فإن بقي المال على الشَّرائط مِنَ النِّصاب، والسَّوم في الأنعام، وأن لا تكون عوامل كشف عَنِ استقرار الوجوب بالأوَّل، وإنِ اختلف كلاًّ أو بعضاً كشف عن عدم كونها واجبةً، كما لو حاضت المرأة في أثناء اليوم في شهر رمضان؟
ذهب كثير مِنَ الأعلام إلى الأوَّل، أي استقرار الوجوب بدخول الشَّهر الثَّاني، ومنهم صاحب الجواهر والسَّيد الحكيم في المستمسك (رحمهما الله).
وذهب جماعة أخرى إلى الثَّاني، أي إلى الوجوب المتزلزل، منهم المصنِّف (رحمه الله) هنا وفي البيان، والشَّهيد الثاني (رحمه الله) في المسالك، والمحقِّق الميسي (رحمه الله)، وغيرهم.
وقد يستدلُّ للقول الأوَّل أي استقرار الوجوب بدخول الشَّهر الثَّاني عشر : بحسنة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدِّمة، فإنَّها صريحة في استقرار الوجوب بذلك.
ويؤيِّدها: ظاهر معقد الإجماعات، فإنَّ قوله (عليه السلام) في الحسنة المتقدِّمة: «إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِيَ عَشَرَ، فَقَدْ حَالَ عليه (عَلَيْهَا) الحَوْل، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ» ظاهر، بل صريح في الوجوب المستقرِّ.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى القول الثَّاني، فقد يستدلُّ له: بأنَّ لفظ الحَوْل، وكذا العامّ، والسَّنة، المتكرِّر ذِكْرها عند بيان شرائط الزَّكاة عبارة عن تمام السَّنة عرفاً ولغةً وشرعاً.
فقوله (عليه السلام) في الحسنة المتقدِّمة «إذا دخل الشهر الثاني عشر فقد حال عليه (عليها) الحَوْل»، مبنيٌّ على التَّوسعة والتَّجوُّز، بتنزيل التَّلبُّس بالجزء الأخير مِنَ الشَّيء منزلةَ إتمامِه.
والمتبادر من هذه التَّنزيل إرادته من حيث شرطيَّته لتنجُّز التَّكليف بالزَّكاة وصيرورتها حقّاً للفقير، وليس التَّنزيل من حيث جميع الآثار، أي بقيَّة الشَّرائط، فلا ينافيه اعتبار بقاء المال جامعاً لشرائط النصاب إلى تمام الحَوْل في أصل تحقُّق التَّكليف، بحيث لو اختلَّ شيء منها قبل انقضاء الشَّهر الثَّاني عشر كَشَف عن عدم تحقّقه في الواقع.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ المنساق مِنَ الحسنة هو عموم المنزلة، أي تنزيل دخول الشَّهر الثَّاني عشر منزلة انقضاء الحَوْل بالنِّسبة إلى جميع ما يعتبر وجوده في تمام الحَوْل، لا خصوص تعلُّق التَّكليف بالزَّكاة دون سائر الشَّرائط المعتبرة في تمام الحَوْل، وما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الحسنة؛ إذ مقتضى إطلاقها استقرار الوجوب بالإضافة إلى بقية الشرائط.
اُنظر إلى قوله (عليه السلام): «إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِيَ عَشَرَ، فَقَدْ حَالَ عليه (عَلَيْهَا) الحَوْل، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ»، فإنَّها ظاهرة في الوجوب المستقرِّ بالإضافة إلى بقية الشَّرائط أيضاً.
والخلاصة: أنَّ ما ذهب إليه كثير مِنَ الأعلام مِنِ استقرار الوجوب بدخول الشَّهر الثَّاني عشر، هو الأقوى، والله العالم.
ثمَّ إنَّه بقي الكلام في أنَّ الشَّهر الثَّاني عشر محسوب مِنَ الحَوْل الأوَّل، أو الحَوْل الثَّاني؟
ذهب جماعة من الأعلام إلى أنَّه يحتسب مِنَ الحَوْل الثَّاني، منهم المحقِّق الشَّيخ فخر الدِّين (رحمه الله) في شرح القواعد.
وذهب كثير مِنَ الأعلام إلى أنَّه يحتسب مِنَ الحَوْل الأوَّل، منهم المصنِّف هنا، وفي البيان، والشَّهيد الثاني في المسالك، وصاحب الحدائق (رحمهم الله جميعاً).
ولكي يتَّضح الحال، نقول: هل إنَّ دلالة حسنة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدِّمة على تحقُّق الوجوب واستقراره بدخول الشَّهر الثَّاني عشر، هي من باب التَّصرَّف في الحَوْل بحَمْله على الأحد عشر شهراً؛ وذلك إمَّا لكونه حقيقةً شرعيَّةً في الأحد عشر في باب الزَّكاة خاصَّة، وإمَّا لكونه مجازاً مُرسَلاً، فيكون استعماله في الأحد عشر مجازاً بعلاقة الإشراف، وإمَّا لكونه استعارةً، أي أن استعماله في الأحد عشر من باب الاستعارة المشابهة، أو أنَّه ليس من باب التَّصرُّف في الحَوْل، بل هو من باب التَّصرُّف في نسبة الحَوَلان إلى الحَوَل بمضي أحد عشر شهراً منه.
ومِنَ المعلوم أنَّ كون الشَّهر الثَّاني عشر محسوباً مِنَ الحَوْل الأوَّل، أو الحَوْل الثَّاني، مبنيٌّ على التَّصرُّف بالحَوَلان أو الحَوْل؛ إذ على الثَّاني أي التَّصرُّف بالحَوْل يكون كلُّ أحد عشر شهراً حولاً، فلابدَّ مِنِ احتساب الشَّهر الثَّاني عشر مِنَ الحَوْل الثَّاني.
وعلى الأوَّل أي التَّصرُّف بالحَوَلان : يكون الحَوْل باقياً على معناه اللُّغوي والعرفي، أي الإثنى عشر شهراً ولا بد من احتساب الشهر الثاني عشر من الحول الأول.
غاية الأمر يكون حولان الإثنى عشر بدخول الثَّاني عشر.
وبما أنَّ الإنصاف: أن التصرف إنَّما هو بالحَوَلان، لا بالحَوْل، فيكون الشَّهر الثَّاني محسوباً مِنَ الحَوْل الأوَّل.
وأمَّا أنَّ الإنصاف هو كون التَّصرُّف بالحَوَلان، لا بالحَوْل؛ فلأنَّ التَّصرُّف بالحَوْل بحَمْله على الأحد عشر شهراً على نحو الحقيقة الشَّرعيَّة، في غير محلِّه أصلاً؛ إذ لم تثبت الحقيقة الشَّرعيَّة هنا، إن لم يكن الثَّابت عدمها، والأصل عدم النَّقل إلى المعنى الشَّرعي.
وأمَّا التَّصرُّف بالحَوْل بحَملْه على الأحد عشر شهراً على نحو المجاز المرسل أوِ الاستعارة، فإنَّ ذلك، وإن كان ممكناً، إلاَّ أنَّ الأقرب عند العرف: هو التَّصرُّف بالحَوَلان، أي تنزيل التلبُّس بالدخول في الثَّاني عشر الذي به يتمُّ الحَوْل منزَّل منزلة تمامه، بل هذا هو المألوف عند العرف.
ولذا تراهم يقولون مثلاً: مضى على زيد أسبوع في البلد الفلاني إذا دخل اليوم السَّابع، ومضى عليه شهرٌ إذا دخل اليوم الأخير، كما يقولون أيضاً: انقضى النَّهار إذا دخل في السَّاعة الأخيرة منه، وانقضى شهر رمضان إذا دخل في العشر الأواخر منه، كما ورد في الأدعية المأثورة: «هَذِهِ أَيَامُ شَهْرِ رمضانَ وَلَيَالِيْهِ قَدْ تَصَرَّمَتْ».
والخلاصة: أنَّ التجوُّز إنَّما هو في حولان الحَوْل، لا في الحَوْل، فإنَّه باقٍ على معناه اللُّغوي والعرفي، أي الإثني عشر شهراً.
وعليه، فيحتسب الشَّهر الثَّاني عشر مِنَ الحَوْل الأوَّل، وإن حصل استقرار وجوب الزَّكاة بالدُّخول في الشهر الثَّاني عشر.
غاية الأمر أنَّ هذا الوجوب ليس فوريّاً، بل يجوز تأخيره إلى آخر السَّنة، كما فعل النَّبي (ص)، حيث طالب بالزَّكاة بعد انتهاء شهر رمضان.
أضف إلى كلِّ ذلك: أنَّ الرِّوايات دلَّت على أنَّ المال الواحد لا يزكَّى في سنة مرتَيْن، ولو كان الشَّهر الثَّاني عشر محسوباً مِنَ الحَوْل الثَّاني للزم تزكية المال في السَّنة مرَّتَيْن: مرَّةً عند انقضاء الحَوْل الأوَّل، وهو الأحد عشر شهراً، ومرَّة ثانيةً عند انقضاء الحَوْل الثَّاني، أي الأحد عشر الأخرى، حيث إنَّ المجموع اثنان وعشرون شهراً، وهو أقلُّ من سنتَيْن، فيكون قد زكَّى المال الواحد في السَّنة مرَّتَيْن.
|