وممَّا ذكرنا يظهر لك عدم صحَّة ما ذكره ابن إدريس R، لأنّ فيه طرح للروايات المعتبرة، بلا موجب، ومثله في عدم الصحَّة أيضاً ما ذكره السّيد المرتضى لما يلزم منه من طرح الرّوايات المعتبرة بلا سبب.
وأمّا ما ذهب إليه المحقِّق R من التخيير، فهو مبني على تعارض الأخبار مع عدم الترجيح في البين، ولكنَّك عرفت ما هو مقتضى الإنصاف.
وأمَّا ما ذكره ابن زهرة من أنّ العريان إذا كان بحيث لا يراه أحد صلّى قائماً، وركع وسجد، وإلاَّ صلّى جالساً مومياً، ووافقه صاحب الجواهر R، فقد استدل له ببعض الأدلَّة:
منها: الأصل.
وفيه: إن كان المراد منه الاستصحاب، أي استصحاب الرّكوع والسّجود في الصَّلاة.
ففيه أنَّه من استصحاب الحكم الكلّي، وقد عرفت ما فيه.
وإن كان المراد به المطلقات الدّالّة على وجوب الرّكوع والسّجود فهي مقيَّدة بصحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة الدّالة على بدليّة الإيماء منهما.
ومنها: الإجماع الذي ادَّعاه ابن زهرة R.
وفيه: أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد ليس بحجّة، بل كيف ينعقد الإجماع مع ذهاب المشهور، بل المعظم إلى خلافه.
ومنها: خبر الحفيرة المتقدم، وهو مرسل أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله N «قال: العاري الذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها، ويسجد فيها، ويركع»[i]f184.
وفيه أوَّلاً: أنَّه ضعيف بالإرسال.
وثانياً: أنّه مختصّ بالحفيرة، ولا يصحّ التعدي منها إلى غيرها لاحتمال الخصوصيّة لها.
ومنها: أنّ الذي سوَّغ له القيام المقتضي لانكشاف قُبُلِه هو الأمن من المطلع، فإذا كان الأمر كذلك فلا موجب حينئذٍ لسقوط الركوع والسجود، لاشتراك العلة بينهما.
وإن شئت فقل: إنّ السّاتر للصَّلاة ساقط للعجز عن تحصيله، وإنّما الواجب رعاية السّتر في حدّ نفسه، للأمن من الناظر المحترم.
وعليه، فإذا جوَّزنا له الصَّلاة قائماً مع الأمن من الناظر المحترم فيجب عليه حينئذٍ أيضاً الرّكوع والسَّجود، ولا موجب لسقوطهما عنه.
وفيه: أنَّ هذا اجتهاد في مقابل النصّ، فإنّ صحيح علي بن جعفر المتقدم قد دلّ على الصَّلاة إيماءً في هذه الصَّلاة، فلا معنًى حينئذٍ لهذا الكلام.
نعم، لولا هذا النصّ لكان مقتضى القاعدة وجوب الرّكوع والسّجود، دون الإيماء.
ومنها: موثَّقة إسحاق بن عمَّار «قال: قلت لأبي عبد الله N: قومٌ قُطِعَ عليهم الطّريقُ، وأُخِذَت ثيابُهم، فبقوا عراةً، وحضرتِ الصَّلاة، كيف يصنعون؟ فقال: يتقدَّمهم إمامُهم، فيجلس، ويجلسون خلفه، فيُومئ إيماءً بالرّكوع والسّجود، وهم يركعون، ويسجدون خلفه على وجوهم»[ii]f185.
وفيه: أنّه مختصّ بالصَّلاة عراةً جماعة، ولا يشمل المنفرد الذي هو محلّ الكلام.
ومنها: أنَّ صحيحة عليِّ بن جعفر المتقدِّمة التي هي العمدة في الصَّلاة قائماً مع الإيماء موهونة بعدم الأخذ بإطلاقها من حيث الأمن من المطّلِع وعدمه، مع تعيّن الجلوس في صورة عدم الأمن، كما هو المعروف، وأيضاً الصحيحة ظاهرة في لزوم التشهّد والتسليم قائماً، ولم يُعرف دليل عليه، ولا مصرِّح به.
أضف إلى ذلك: أنّه يحتمل إرادة أوّل مراتب الرّكوع من الإيماء فيه.
والجواب: أمَّا الإشكال من ناحية الإطلاق فغير وارد، لأنّه مقيَّد بصحيحة عبد الله بن مسكان المتقدِّمة المفصِّلة بين الأَمْنِ وعدمه، وأنَّه مع عدمه يصلِّي جالساً، وأمَّا ظهور الصحيحة في وجوب التشهّد والتسليم قائماً فمع التسليم بأنّها في مقام البيان من هذه الجهة فلا بأس بالقول بذلك، وَلْتكن هذه الصَّحيحة هي الدليل على ذلك.
وأمَّا احتمالُ إرادة أوّل مراتب الرّكوع من الإيماء فيه.
فَيَرِدُ عليه: أنَّ الإيماء بنظر العرف مغاير للرّكوع، لا سيَّما بملاحظة كونه في مقابل ما ذُكِر في صدره من إتمام الرّكوع والسّجود إن أصاب حشيشاً.
ثمَّ إنّه لو فرضنا تحقّق هذا المعنى في الرّكوع في الجملة إلاّ أنّه لا يتحقّق بالنسبة إلى السّجود، ضرورةَ أنَّ وضع الجبهة على الأرض من مقوِّمات مفهوم السّجود عرفاً، فالإنحناء غير الموجب لوصول الجبهة إلى الأرض أجنبيّ عن ماهية السّجود، فضلاً عن مطلق الإيماء.
والخلاصة: أنَّ الأقوى هو ما ذهب إليه المشهور، والله العالم.
[i] الوسائل باب 50 من أبواب لباس المصلّي ح7.
[ii] الوسائل باب 1 من أبواب لباس المصلّي ح1.
|