ثانيهما: توّهم كون آراء المجتهد ليست إلّا عبارة عن إدراكاته الظنية الحاصلة له من النظر في الأدلّة، وهي باعتبار كون موطنها الذهن الذي هو من القوى الجسمانية ممّا تزول بالموت، وبذهاب القوة الجسمانية بل وتزول أيضاً بضعف القوى وعروض العوارض من مرض ونحوه، فلا يمكن بقائها بعد الموت وفناء البدن، لامتناع بقاء العرض بعد زوال موضوعه.
ولكن يرد على هذا الكلام: ان إدراكات المجتهد وإن كانت حاصلة بتوسيط القوى المتعلقة بالبدن من الواهمة والمتخيّلة ونحوهما، إلّا أنها قائمة بالنفس الناطقة الباقية بعد فناء البدن واضمحلاله، فالقوى المتعلقة بالبدن العنصري هي آلات درك النفس في هذه النشأة، والنفس هي المدركة لها بتوسيطها، كما تدرك الأشياء الخارجية المحسوسة بتوسيط القوى الحساسة.
بالجملة، فالآراء التي استنبطها المجتهد لا يكون محلّها إلّا نفس المجتهد، وهي باقية ببقاء النفس، ولا يطرأ عليها الزوال بالموت إلّا بانكشاف خلافها في النشأة الأخروية التي هي دار الكشف والشهود، ولا تزول أيضاً بمثل الهرم والنسيان والمرض والجنون والإغماء، وإنما هي باقية، وفي خزانة النفس محفوظة. غاية الأمر، النفس غير متمكنة عند عروض هذه العوارض على البدن العنصري في هذه النشأة من ترتيب الأثر عليها لمكان اشتغالها بتدبير البدن أو التوجّه إلى نشأة أخرى، كما في حال النوم وغيره.
والخلاصة: أن ادراكات المجتهد وآرائه قائمة بالنفس الناطقة الباقية بعد فناء البدن واضمحلاله، فمهما شك في زوال آراء المجتهد بالموت، لأجل احتمال انكشاف مخالفتها للواقع في النشأة الأخروية، فيجري فيها الاستصحاب، وتترتب على بقائها الآثار من جواز التقليد والحجّية.
ثم أنه ممّا يؤكد أن الرأي باق بعد الموت حتى عرفاً: هو أن أهل العرف يعملون بآراء بعض أهل الخبرة في بعض الفنون والصنايع ولو بعد موتهم، وليس ذلك إلا من جهة أن الرأي ممّا لا ينعدم بالموت بل ذكرنا سابقاً أنه مع عدم وجود المجتهد الحيّ أو مع عدم التمكن من الوصول إليه، فلا إشكال في جواز تقليد الأموات ابتداءً، وما ذلك إلّا لأن الرأي يبقى بعد الموت، وإلّا كيف جاز العمل بآرائهم؟
وأمّا التقرير الثاني، للاستصحاب وهو استصحاب الحكم الظاهري. فنقول -أيضاً مع قطع النظر عن إشكال عدم جريانه، لأنه من استصحاب الحكم الكلي-: ان المجتهد أفتى بوجوب السورة مثلاً في الصلاة أو أفتى بحرمة العصير العنبي، ونحو ذلك. فهذه الأحكام ثابتة في حق المقلّد ظاهراً بدليل حجّية الفتوى، وأنها منجّزة عليه في حال حياة المجتهد وإن لم يعمل بها، فإذا شك في بقاء هذه الأحكام بعد موته، لأجل الشك في حجّية رأيه بعد الموت فيستصحب بقائها.
وأما الإشكال على هذا الاستصحاب: بأن ثبوت هذه الأحكام الظاهرية لمعروضاتها إنما هو باعتبار كونها ممّا قام عليه رأي المجتهد. وعليه، فإذا كان رأي المجتهد له دخالة في الموضوع فيشترط حينئذٍ بقاء الرأي بعد الموت حتى يصّح الاستصحاب وإلّا فمع اليقين بزواله بالموت أو الشك في بقائه، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز اتحاد القضيتين موضوعاً ومحمولاً.
فمدفوع، أولاً: بما تقدم من بقاء الرأي بعد الموت حتى عرفاً. وثانياً: مع قطع النظر عن ذلك، فإن هذا الإشكال إنما يتمّ لو كان رأي المجتهد في المسألة جزئاً من الموضوع، ومن مقوّمات المعروض وجهة تقييديّة لثبوت تلك الأحكام لمعروضاتها وإلّا فعلى ما هو الإنصاف من كون رأي المجتهد من علل ثبوت الأحكام الظاهرية بلا دخالة له في الموضوع الذي هو متعلق تلك الأحكام، فحرمة العصير العنبي ظاهراً على المقلد موضوعها العصير العنبي، وهذه الحرمة إنما كانت لأن المجتهد أفتى بذلك، لا أن رأيه جزء للموضوع ومقوّم له وجهة تقييديّة، بحيث إذا زال رأيه زال الموضوع.
ومن هنا، فلا إشكال في جريان استصحاب تلك الأحكام الظاهرية مع الشك في بقاء الرأي بل ومع قطع بزواله لتمامية أركانه من اليقين السابق والشك في البقاء لاحقاً، لاحتمال دخل الحياة في حجّية الرأي مع اتحاد القضيتين موضوعاً ومحمولاً عرفاً ودقة.
لا يقال: إنه كيف يبقى الحكم مع زوال الرأي مثلاً بعد الموت مع أنه إذا تبدّل رأي المجتهد في حال الحياة لا يجوز العمل به حينئذٍ؟ فإنه يقال: إن عدم جواز إتباع الرأي في فرض التبدّل في حال الحياة، إنما هو من جهة اشتراط حجّية الرأي بعدم عدول المجتهد عنه عند ظهور الخطأ في مستنده، لأنه بذلك يخرج الرأي عن الصلاحية للطريقية والكاشفية عن الواقع، نظير ما إذا ظهر للشاهد الخطأ في مستنده، لا أنه من جهة اشتراط ثبوت الأحكام الظاهرية ببقاء الرأي.
إن قلت: يلزم على ذلك جواز البقاء على تقليد المجتهد مع زوال رأيه بالجنون أو الإغماء أو النسيان غير العادي ونحو ذلك، مع أنه ليس كذلك اتفاقا، فإذا لم يجز البقاء على التقليد والعمل بالرأي السابق في الموارد المذكورة لم يجز البقاء في الموت الذي يوجب زوال الرأي، ويصير الذهن معه جماداً بالأولوية. قلت: إن بناء الأعلام واتفاقهم على ذلك، إنما هو لانتفاء ما اعتبر في المفتي من العقل والضبط، وغيرهما في حجّية رأيه، نظير سائر ما اعتبر فيه من الإيمان والعدالة ونحوهما ممّا ترتفع حجّية الرأي بارتفاعه، لا أنه لأجل زوال الرأي.
والخلاصة إلى هنا: ان الإشكال الرئيسي على جريان الاستصحاب في التقريرين معاً، هو عدم جريانه في الأحكام الكلّية، والله العالم.
وقد اتضح ممّا تقدم، انه في صورة العلم بالمخالفة وعدم العلم بأعلّمية أحدهما، فلا حجّية لفتوى الميّت ولا لفتوى الحيّ، ومعه يتعيّن على المكلّف الاحتياط أي الأخذ بأحوط الأقوال، هذا إذا تمكن من الاحتياط.
وأما مع عدم التمكن، كما إذا دار الأمر بين المحذورين، بأن أفتى أحدهم بالوجوب والآخر بالحرمة أو أفتى أحدهما بوجوب القصر والآخر بوجوب التمام، والوقت لا يسعهما فيتخير بينهما، وهو من التخيير العقلي، لأن المكلّف لا يتمكن من الامتثال الجزمي، فيتنزل العقل إلى الامتثال الاحتمالي، لأنه الميسور له، وهو ما يسمى بالتخيير في مقام الامتثال. هذا تمام الكلام في الصورة الأولى، وهي صورة العلم بالمخالفة بالفتوى مع عدم العلم بأعلّمية أحدهما.
|