هذا كلّه فيما لو التزمنا بالحجّية التخييرية، ولكن الإنصاف: أن الحجّية التخييرية غير ثابتة بل المتعيّن عندنا هو التساقط في حال التعارض، ويتعيّن حينئذٍ الأخذ بأحوط القولين أو الأقوال -نظير المتعارضين مع عدم المرجح لأحدهما، حيث ذهبنا إلى التساقط والرجوع إلى الأصول العملية، إذا لم يكن عموم فوقاني- وعليه، فلا يتوقف التقليد على الالتزام، فضلاً عن أن يكون التقليد نفس الالتزام عند تعدّد المجتهد، والاختلاف في الفتوى مع تساويهم في الفضيلة.
ثم أنه لا ثمرة مهمّة تترتب على النزاع في مفهوم التقليد، وذلك لسببين:
السبب الأوّل: عدم ورود عنوان التقليد في الروايات موضوعاً لأي حكم ما خلا روايتين:
الرواية الأولى: رواية الاحتجاج: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه».[1] ولكنها ضعيفة بالإرسال.
الرواية الثانية: رواية أبي بصير، قال: «دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله (عليه السّلام) وأنا عنده فقالت: جعلت فداك انه يعتريني قراقر في بطني، وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق. فقال: ما يمنعك من شربه. فقالت: قد قلّدتك ديني. فقال: فلا تذوقي منه قطرة لا والله لا آذن لك في قطرة منه وإنما تندمين إذا بلغت نفسك ههنا، وأومأ بيده إلى حنجرته -يقولها ثلاثاً- أفهمت. فقالت: نعم. ثم قال أبو عبد الله (عليه السّلام): ما يبلّ الميل ينجس حُبّاً من ماء يقولها ثلاثاً».[2] قال صاحب الوسائل (رحمه الله): «الحديث محمول على التقيّة أو الإنكار للشرب لا للترك أو الاستفهام الحقيقي». أقول: الذي يهوّن الخطب، أنها ضعيفة بالإرسال وجهالة إبراهيم بن خالد، وأم خالد العبدية هي التي قطع عطاءها يوسف بن عمر الذي قتل زيداً وكان والياً على العراق، وأم خالد كانت مائلة إلى زيد بن علي. وعليه، فلا يهمّنا تحقيق مفهوم التقليد لعدم وروده موضوعاً لحكم شرعي في رواية معتبرة.
السبب الثاني: انه في فرض اتحاد المجتهد يكفي في صحّة العمل مجرّد تطبيق العمل على فتوى المجتهد المنحصر حجّية فتواه في حقه، بل يكفي فيها مجرّد اتفاق مطابقة العمل لرأي من يجب إتباع رأيه تعييناً ولو لم يتحقق عنوان التقليد بالأخذ والالتزام أو تطبيق العمل على الفتوى معتمّداً عليها، ولذلك نرى الأعلام مصرّحين في فتاويهم بأن المقلّد لو عمل عملاً واتفق كونه مطابقاً لفتوى المجتهد المنحصر حجّية فتواه في حقّه أجزئه. وهكذا الكلام في فرض عدم انحصار المجتهد واتفاقهم في الفتوى، فإن تعدّد الفتاوى حينئذٍ كتعدّد الخبر الدالّ على وجوب شيء في كون الجميع حجّة على المقلّد من غير احتياج في مرحلة صحّة العمل ولا في المعذّرية والمنجزّية إلى تعيين شخص خاص في العمل برأيه.
وأما في فرض تعدّد المجتهد واختلافهم في الفتاوى وتساويهم في الفضيلة، فقد عرفت ما هو الإنصاف فيها إلّا أنه لا يتفاوت الحال فيه بين القولين في التقليد.
ثم أنه ينبغي التنبيه على أمر، وحاصله: ان مسألة البقاء على تقليد الميت ليست مبنيّة على معنى التقليد بل هي مبنيّة على شيء آخر، سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ومن هنا، ذهبنا إلى أنه يكفي في البقاء على تقليده بعد موته إدراكه حيّاً، وإن لم يتعلّم فتواه ولم يلتزم بها ولم يعمل بها أيضاً، مع أن التقليد عندنا هو العمل اعتمادا على فتوى المجتهد. وسيأتي الكلام بالتفصيل إن شاء الله تعالى عند الكلام عن مسألة البقاء على تقليد الميّت. والله العالم بحقائق أحكامه.
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة، يكون بديهياً جبلّياً لا يحتاج إلى دليل، وإلّا لزم سدّ باب العلم به على العامي مطلقاً غالباً، لعجزه عن معرفة ما دلّ عليه كتاباً وسنّة، ولا يجوز التقليد فيه أيضاً، وإلّا لدار أو تسلسل*
هذه هي المسألة الأولى من المسائل الثلاث المشار إليها سابقاً: وهي وجوب التقليد أو جوازه على العامي، وبيان الأدلّة في المقام.
واعلم، أوّلاً: أن مسألة التقليد ليست تقليدية وإلّا لزم الدور أو التسلسل.
وبيان ذلك: أن كل مكلف بعد علمه بثبوت المبدأ الأعلى جلّ جلاله وإرسال الرسل وتشريع الشريعة، إذ لا معنى لشرع بلا شريعة، وعليه، فكل مكلف يعلم علماً إجمالياً بثبوت أحكام إلزامية من وجوب أو حرمة. وبهذا العلم الإجمالي تنجّزت عليه الأحكام الواقعية، ولا بدّ من الخروج عن عهدتها لاستقلال العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف الإلزامية، والخروج عن عهدة التكاليف منحصر في الاجتهاد والتقليد والاحتياط.
[1] وسائل الشيعة: باب 10 من أبواب صفات القاضي، ح20.
[2] وسائل الشيعة: باب 20 من أبواب الاشربة المحرمة، ح2.
|