ثم أنه قد أُوِرد على القول بكون التقليد هو العمل استنادا إلى فتوى المجتهد المعيّن، بثلاثة إشكالات:
الإشكال الأول: ما أشار إليه صاحب الكفاية. وحاصله: «ان التقليد إذا كان هو العمل استنادا إلى فتوى المجتهد المعيّن فأوّل عمل يصدر من المكلف يكون من غير تقليد، لأن ذلك العمل -أي أوّل عمل- غير مسبوق بالتقليد الذي هو العمل، مع أن العمل لا بدّ أن يكون مسبوقاً بالتقليد، لأن المكلف لا بدّ أن يستند في أعماله إلى حجّة. وفيه: أنه لا دليل من آية أو رواية يفتين على وجوب كون العمل عن تقليد -أي كونه مسبوقاً بالتقليد- كي يجب أن يكون التقليد سابقاً على العمل، بل الذي يجب على العامّي أو يجوز له بمقتضى الأدلّة الآتية إن شاء الله تعالى هو التقليد. وعليه، فإذا عمل المكلف عملاً مستنداً فيه إلى فتوى الغير كان ذلك العمل مقروناً بالتقليد وهو كاف في صحته، وقد عرفت أنه لا دليل على اعتبار سبق التقليد على العمل. وبعبارة أخرى، فإذا عمل استنادا إلى فتوى المجتهد فقد صدق عليه أنه قلّده وان لم يصدق عليه عمل مسبوق بالتقليد.
الإشكال الثاني: ما أشار إليه صاحب الفصول (رحمه الله) من لزوم الدور لو كان التقليد هو نفس العمل، وحاصله: ان وقوع العبادة في الخارج يتوقف على قصد القربة، وقصد القربة يتوقف على العلم بكونها عبادة، والعلم بذلك للعامي يتوقف على التقليد، فلو كان التقليد هو العمل أي وقوع العبادة في الخارج لتوقف وقوعها في الخارج على وقوعها في الخارج، وهو دور صريح. وفيه: ان العلم بكونها عبادة للعامي لا يتوقف على التقليد بل يتوقف على الدليل، وهو هنا فتوى المجتهد. وعليه، فلو كان التقليد هو العمل ووقوع العبادة في الخارج لم يلزم الدور، والله العالم.
الإشكال الثالث، ما ذكره الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في رسالته المستقلة، وحاصله مع توضيح منّا: «ان التقليد لو كان هو العمل امتنع أن يقع العمل على صفة الوجوب أو الندب، إذا كان ممّا اختلف فيه المجتهدون كغسل الجمعة حيث ذهب بعض الأعلام المتقدمين إلى وجوبه بل امتنع أن يقع على صفة المشروعية، إذا كان ممّا اختلف في مشروعيته كصلاة الجمعة في زمان الغيبة، حيث ذهب الأكثر إلى مشروعيتها مع قطع النظر عن الوجوب أو الاستحباب وذهب بعضهم إلى حرمتها، وكما في صلاة القصر إلى أربع فراسخ إذا لم يرجع ليومه. وأمّا إذا رجع ليومه فالمعروف بينهم هو وجوب التقصير مع تحقق باقي الشرائط لصلاة القصر.
ووجه الامتناع: ان وقوع العمل في الخارج على صفة الوجوب أو الندب أو المشروعية، ممّا لا يتحقق إلا بالتقليد، فلو كان التقليد هو العمل الخارجي لتوقف وقوع العمل في الخارج على وقوع العمل في الخارج». (انتهى حاصل كلام الشيخ الأنصاري). وفيه: ما تقدّم في الجواب عن إشكال صاحب الفصول، فإن وقوع العمل في الخارج على صفة الوجوب أو الندب أو المشروعية لا يتوقف على التقليد، بل على الدليل الشرعي والذي هو هنا فتوى المجتهد، فلا إشكال حينئذٍ. هذا كلّه مع اتحاد المجتهد.
وأما مع تعدّده واتفاقهم في الفتوى: فالظاهر أنه لا دليل على تعيين واحد منهم فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز بعضهم، وأدلة حجّية الفتوى كأدلة حجّية خبر الواحد، إنما تدل على حجّية الفتوى بنحو صرف الوجود الصادق على القليل والكثير، فكما أنه إذا تعدّد الخبر الدال على حكم معيّن يكون الجميع حجّة على ذلك الحكم، فأيضاً يكون البعض كذلك ولا تختص الحجّية بواحد منها معين أو مردّد، كذلك لو تعدّدت الفتوى.
وأمّا إذا تعدّد المجتهدون واختلفوا في الفتوى مع تساويهم في الفضيلة: فهل يكون التقليد هو العمل استنادا إلى إحدى الفتويين أو الفتاوى أو أن التقليد ينتزع من نفس الالتزام بالعمل بإحدى الفتويين أو الفتاوى أو أن التقليد يتوقف على الالتزام بالعمل بإحدى الفتويين أو الفتاوى، وحينئذٍ يكون الالتزام مقدمة للتقليد لا أنه عينه؟
وقد ذكر بعض الأعلام كالسيد الحكيم (رحمه الله) في المستمسك: «انه لمّا امتنع أن يكون الجميع حجّة للتكاذب الموجب للتناقض، ولا واحد معيّن لأنه بلا مرجح ولا التساقط والرجوع إلى غير الفتوى لأنه خلاف الإجماع والسيرة تعيّن أن يكون الحجّة هو ما يختاره فيجب عليه الاختيار مقدمة لتحصيل الحجّة وليس الاختيار إلا الالتزام بالعمل على طبق إحدى الفتويين أو الفتاوى بعينها، وحينئذٍ يكون الالتزام مقدمة للتقليد لا أنه عينه، وممّا ذكرنا يظهر أن دعوى أن التقليد هو الالتزام ممّا لم يتضح له مأخذ والله سبحانه أعلم». (انتهى كلامه). وفيه: أنه لو التزمنا بالحجّية التخييرية أي أن الحجّة هي إحدى الفتويين أو الفتاوى تخييراً إلا أنه يجب عقلاً الالتزام بالعمل على طبق إحدى الفتويين أو الفتاوى معيّناً مقدمة لتحصيل الحجّة على امتثال الأحكام، ومن المعلوم أنه لا إشكال عقلاً في وجوب تحصيل الحجّة على الجاهل المتمكن من تحصيلها. وعليه، فالالتزام وان كان مقدمة للعمل لا أنه عينه إلا أن وجوبه حينئذٍ لا يكون إلا عقلياً بمناط تحصيل الحجّة على امتثال الأحكام لا شرعياً مولوياً بل لو ورد دليل شرعي على وجوبه يكون إرشاداً إلى حكم العقل، وإنما الوجوب الشرعي متعلق بما يختاره في ظرف اختياره أي يجب العمل شرعاً على طبق ما يختاره لصيرورته بعد الأخذ حجّة تعيينيّة على المقلَد. وعليه، فلا وجه للاستدلال على وجوبه بمثل السيرة وسائر الأدلة الشرعية ولا بالعقل الفطري الإرتكازي بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، لما عرفت من أن هذه الأدلة نظير أدلّة حجّية خبر الواحد ناظرة إلى إثبات حجّية فتوى المجتهد الراجع إلى إيجاب العمل على طبق فتوى المجتهد لا إلى وجوب تحصيل الحجّة على امتثال الأحكام بل لا بدّ من إثبات وجوبه بحكم العقل المستقل بوجوب تحصيل الحجّة على المتمكن منها مقدمة لامتثال الأحكام.
|