أمَّا الجهة الثانية: في وجوب الردّ على أهل الكتاب وباقي الكفار إذا سلّموا وكيفيّته.
فالمعروف بين الأعلام -ومنهم صاحب الجواهر (رحمه الله)-: عدم وجوب رد سلام أهل الكتاب، وغيرهم من الكفَّار.
وعن جماعة من الأعلام: الوجوب، منهم السَّيد محسن الحكيم، والسَّيد أبو القاسم الخوئي (رحمهما الله).
وقد يستدلّ للقول بالوجوب: بإطلاق الأمر بردّ التحيَّة في الآية الشَّريفة، لا سيَّما ما حكي عن ابن عباس (رحمه الله) في تفسير الآية الشَّريفة، من أنَّ قوله تعالى: ﴿أو ردوها﴾، ورد في أهل الكتاب.
وفيه: أنَّه لا حجَّة في هذا التفسير.
بل الإنصاف أنَّ الآية الشَّريفة مختصَّة بالمسلمين، لأمرَيْن:
الأمر الأوَّل: أنَّه لا يجب الردّ بالأحسن للمسلمين بالاتِّفاق، بل الواجب أحد الأمرين: إمَّا الردّ بالأحسن، أو بالمثل.
الأمر الثاني: لا يجوز ردّ تحيَّة أهل الكتاب بالأحسن، مع أنَّ ظاهر الآية الشَّريفة التخيير بين الردّ بالأحسن أو بالمثل.
والصَّحيح أن يُستدلّ لوجوب الردّ: بإطلاقات الرِّوايات، كما في موثَّقة السَّكوني المتقدِّمة: «السَّلام تطوُّع، والرد فريضة»[1]. وكذا غيرها من الإطلاقات. غاية ما هنالك قد يدَّعى الانصراف عن تحيَّة الكفَّار، ولكنّ دعوى الانصراف في غير محلِّها، إذ من السَّهل جدًّا دعوى الانصراف، ولكن من الصعب جدًّا إثبات هذه الدَّعوى. وأمَّا الاستدلال للوجوب بالرِّوايات الواردة في الكافر بالخصوص ففي غير محلّه، لكونها مسوقةً لبيان كيفيَّة الردّ عليهم، فلا تدلّ على الوجوب.
والخلاصة: أنَّ الأقوى هو وجوب الردّ عليهم.
وأمَّا كيفيَّة الردّ عليهم: فيقتصر في الردّ على لفظ «عليك»، أو «عليكم»، أو «سلام»، كما يستفاد ذلك في عدَّة من الرِّوايات:
منها: موثَّقة سماعة قال: «سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن اليهودي والنصراني والمشرك إذا سلَّموا على الرَّجل وهو جالس كيف ينبغي أن يُردّ عليهم؟ فقال: يقول: عليكم»[2].
ومنها: موثَّقة محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا سلَّم عليك اليهودي والنصراني والمشرك فقل: عليك»[3].
ومنها: موثَّقة غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تبدؤوا أهل الكتاب بالتسليم، وإذا سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم»[4].
ومنها: حسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «دخل يهوديّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده فقال: السَّام عليكم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم، ثمّ دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ عليه كما ردّ على صاحبه، ثمّ دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ردّ على صاحبيه، فغضبت عائشة، فقالت: عليكم السَّام، والغضب، واللعنة يا معشر اليهود! يا إخوة القردة والخنازير! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة! إنَّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثالَ سوءٍ، إنَّ الرفق لم يوضع على شيءٍ قطّ إلَّا زانه، ولم يرفع عنه قطّ إلَّا شانه، قالت: يا رسول الله! أمَا سمعت إلى قولهم: السَّام عليكم، فقال: بلى، أمَا سمعتِ ما رددت عليهم، فقلتُ: عليكم، فإذا سلَّم عليكم مسلم فقولوا: سلام عليكم، فإذا سلم عليكم كافر فقولوا: عليك»[5]. وإنَّما نقلناها بتمامها لِما فيها من الموعظة الحسنة.
ومنها: رواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تقول في الردّ على اليهودي والنصراني: سلام»[6]. هذه الرواية ضعيفة، لأنَّ عبد الله بن مَّحمد الوارد في السَّند الملقَّب بـبنان -والذي هو أخو أحمد بن محمَّد بن عيسى- مجهول الحال.
أضف إلى ذلك: أنَّه يحتمل أن يراد بقوله: «سلام»، الردّ الصُّوَري الذي يتحقَّق به تأليف القلوب، لا التحيَّة عليهم، إذِ الاقتصار على لفظ السَّلام ليس إلَّا لأجل أن لا يُقصد التحيَّة عليهم، فيضمر في نفسه كونه على منِ اتبع الهدى. ويحتمل أن يكون قوله في الردّ عليهم: «سلام»، من قبيل قوله تعالى: ﴿سلام عليك سأستغفر لك ربي﴾، ﴿قل سلام فسوف يعلمون﴾، حيث لم يقصد به التحيَّة، وإنَّما قُصِد به المباعدة والمتاركة.
قال صاحب مجمع البيان في تفسير الآية الثانية: «﴿وقل سلام﴾ تقديره: وقل أمرنا وأمركم سلام، أي متاركة. ثمَّ قال في بيان معنى الآية: ﴿وقل سلام﴾، أي مداراة ومتاركة، وقيل: هو سلام هجران ومجانبة، لا سلام تحيَّة وكرامة»[7]. (انتهى كلامه). وقال في معنى الآية الأولى: «وقال إبراهيم ﴿سلام عليك﴾ سلام توديع وهجر، على ألطف الوجوه، وهو سلام متاركة ومباعدة، عن الجبائي وأبي مسلم، وقيل: هذا سلام إكرام وبرّ، مقابل جَفْوة أبيه بالبرّ، تأديةً لحّق الأبوة، أي هجرتك على وجه جميل من غير عقوق»[8]. (انتهى كلامه)
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويحرم قطع الصَّلاة إلَّا لضرورة كفوات مال، أو تردّي طفل*
أقول: يقع الكلام: أوَّلاً: في حرمة قطع الصَّلاة اختياراً. وثانياً: في موارد الاستثناء، بناءً على حرمة القطع.
أمَّا بالنسبة لحرمة القطع: فهو المعروف بينهم.
قال في المدارك: «أمَّا أنَّه لا يجوز قطع الصَّلاة اختياراً فهو مذهب الأصحاب، لا أعلم فيه مخالفاً، ولم أقف على روايةٍ تدلّ بمنطوقها عليه»[9]. (انتهى كلامه)
وفي الحدائق: «المشهور في كلام الأصحاب (رحمهم الله) -من غير خلاف يُعرف-: هو تحريم قطع الصَّلاة اختياراً، وقيَّده جملة من الأصحاب منهم العلامة في بعض كتبه بالفريضة»[10]. (انتهى كلامه)
وفي الجواهر -بالنسبة لحرمة قطع الصَّلاة الواجبة اختياراً-: «بلا خلاف أجده، كما اعترف به في المدارك وغيرها، بل في مجمع البرهان كأنَّه إجماعي، وفي كشف اللثام: الظَّاهر الاتّفاق، وفي الرِّياض: لا خلاف فيه على الظَّاهر المصرَّح به في جملة من العبائر، معربين عن دعوى الإجماع، كما صرَّح به جملة منهم، في جملة من المنافيات المتقدّمة، كالشَّهيد في الذِّكرى في الكلام والحدث والقهقهة، بل في المحكي عن شرح المفاتيح أنَّه من بديهيَّات الدِّين»[11]. (انتهى كلامه)
أما تتمة الكلام في المسألة فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 33 من أبواب أحكام العِشرة، ح3.
[2] وسائل الشيعة: باب 49 من أبواب أحكام العِشرة، ح6.
[3] وسائل الشيعة: باب 49 من أبواب أحكام العِشرة، ح3.
[4] وسائل الشيعة: باب 49 من أبواب أحكام العِشرة، ح1.
[5] وسائل الشيعة: باب 49 من أبواب أحكام العِشرة، ح4.
[6] وسائل الشيعة: باب 49 من أبواب أحكام العِشرة، ح2.
[7] مجمع البيان (للطبرسي): ج9، ص100.
[8] مجمع البيان (للطبرسي): ج6، ص427.
[9] مدارك الأحكام: ج3، شرح ص477.
[10] الحدائق الناضرة: ج9، ص101.
[11] جواهر الكلام: ج11، ص123.
|