كان الكلام بالنسبة للأكل والشرب في الصلاة، وأنه ما الوجه في البطلان فيهما.
وإن كان الدَّليل على البطلان هو ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: «إذ لا ريب في حصول البطلان بمحو الاسم، ولا ريب في حصوله بهما وإن لم يكثرا، كما هو الأغلب فيهما، إذ أطفال المشترعة يعلمون أنَّ الصَّلاة لا يجتمع معها الأكل والشُّرب، كما هو واضح بأدنى التفات»[1]. (انتهى كلامه)
ففيه: أنَّه لا إشكال في البطلان إذا صدق اسم محو الصَّلاة بهما وإن كان ذلك سهواً فضلاً عن العمد، وإنَّما الكلام في حصول اسم المحو بهما، فقول صاحب الجواهر: «ولا ريب في حصوله بهما» في غير محلِّه، لأنَّه وإن كان معروفاً لدى المتشرِّعة أنَّ الصَّلاة لا يجتمع معها الأكل والشُّرب، حتَّى أنَّ الصبيان يعرفونه، إلَّا أنَّه لا يستكشف منه تلقيه من الشَّارع المقدَّس يداً بيد، حتَّى تكون سيرة المتشرِّعة متّصلة بعصر المعصوم (عليه السلام)، إذ لا ملازمة بين كون ذلك معروفاً لدى المتشرِّعة، ووصول الحكم إلهيم يداً عن يد عن المعصوم (عليه السلام)، إذ يكفي في تحقُّق هذا النحو من المعروفيَّة في مثل هذا الحكم فتوى العلماء به في برهة من الزَّمن ولو من باب الاحتياط، أو حصول الترك من السَّابقين الذين تعلموا منهم صورة الصَّلاة، لمنافاتهما للخشوع الذي ينبغي رعايته حال الصَّلاة، ونحو ذلك.
والإنصاف: أنَّه لا دليل على بطلان الصَّلاة بالأكل والشُّرب القليلَيْن الذي لا ينمحي بهما اسم الصَّلاة، ويبقى عرفاً متشاغلاً بفعل الصَّلاة، بحيث لا تفوت الموالاة، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه، والله العالِم.
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وجوَّز الشَّيخ الشُّرب في النافلة، ورواية سعيد الأعرج مخصوصة بالوتر لمريد الصِّيام وهو عطشان، خائف فَجْأة الصُّبح*
كما هو المعروف بين الأعلام، ويدلّ عليه ما رواه الشَّيخ بإسناده عن أحمد بن محمَّد، عن الهيثم ابن أبي مسروق النهدي، عن محمَّد بن الهيثم، عن سعيد الأعرج قال: «قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنِّي أبيت وأريد الصَّوم، فأكون في الوتر، فأعطش، فأكره أن أقطع الدُّعاء وأشرب، وأكره أن أُصبِح وأنا عطشان، وأمامي قُلَّة بيني وبينها خطوتان أو ثلاث، قال (عليه السلام): تسعى إليه، وتشرب منها حاجتك، وتعود في الدُّعاء»[2]. وهذه الرواية حسنة، لأنَّ الهيثم بن أبي مسروق النهدي ممدوح مدحا معتدّاً به.
ورواه الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه بإسناده عن سعيد الأعرج أنَّه قال: «قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعِلت فداك! إنِّي أكون في الوتر، وأكون نويت الصَّوم، فأكون في الدُّعاء وأخاف الفجر، فأكره أن أقطع على نفسي الدُّعاء وأشرب الماء، وتكون القُلَّة أمامي، قال: فقال (عليه السلام) لي: فاخطُ إليها الخطوة والخطوتين والثلاث، واشرب وارجع إلى مكانك، ولا تقطع على نفسك الدُّعاء»[3]. وهذه الرواية موثَّقة بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله)، لأنَّ في إسناده إلى سعيد الأعرج عبد الكريم بن عَمْرو الملقب بكرّام، وهو واقفي ثقة.
وعليه: فالقائل بعدم جواز الشرب في أثناء الصَّلاة التزم بالتخصيص هنا لأجل النصّ.
وعن جماعة من الأعلام: الاقتصار على خصوص مورد النصّ، وهو حال التشاغل بالدُّعاء، المراد به القنوت المأتي به في مفردتها.
وظاهر جماعة منهم المحقِّق (رحمه الله) في الشَّرائع التعدِّي منه إلى سائر أحوال صلاة الوتر.
وعن الشَّيخ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف التعدِّي إلى مطلق النافلة.
والأشبه بالقواعد: هو الاقتصار على مورد النصّ، هذا كلّه بناءً على عدم جواز الشُّرب في أثناء الصَّلاة أصلاً، فيكون التخصيص لأجل النصّ.
وأمَّا بناءً على ما ذهبنا إليه: فتكون الرِّواية مطابقة للقاعدة وليس استثناءً وتخصيصاً إذا كان الشرب قليلاً، ولم يكن ماحياً لصورة الصَّلاة، كما هو المفروض، والله العالِم.
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والأقرب كراهة عقص الشعر، ورواية مصادِف عن الصَّادق (عليه السلام) بإعادة الصَّلاة منه تحمل على الندب*
قال في المدارك: «عقص الشَّعر هو جمعه في وسط الرَّأس، وضفره وليّه، والقول تحريمه في الصَّلاة وبطلانها به للشَّيخ (رحمه الله)، وجمع من الأصحاب»[4]. (انتهى كلامه)
قال الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف: «لا يجوز للرَّجل أن يصلِّي معقوص الشَّعر، إلا أن يحلّله، ولم يعتبر أحد من الفقهاء ذلك دليلنا إجماع الفرقة»[5]. (انتهى كلامه)
ويظهر من المصنِّف (رحمه الله) في الذِّكرى موافقته، مستدلاً عليه بالإجماع الذي نقله الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف، بناءً منه على حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد.
ويظهر من المحدِّث الحرّ العاملي (رحمه الله) في الوسائل موافقته، ونسب إلى سلّار وأبي الصَّلاح، وابن إدريس، وجمهور المتأخِّرين القول بالكراهة.
استُدلّ للقول بالحرمة بدليلين:
الدليل الأوَّل: الإجماع الذي ادَّعاه الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف.
وفيه: أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد غير حجَّة. أضف إلى ذلك: أنَّ جلّ العلماء ذهبوا إلى خلافه.
الدليل الثاني: رواية مصادِف عن أبي عبد الله (عليه السلام): «في الرَّجل صلَّى بصلاة الفريضة، وهو معقص الشعر، قال: يعيد صلاته»[6]. هذه الرواية ضعيفة بمصادف. ولو كان ذلك محرّماً ومبطلاً للصَّلاة لشاع وذاع بين المؤمنين، لكثرة الابتلاء به، مع أنَّه لم يرد ذلك إلَّا في خبر ضعيف، كما عرفت.
وعن المحدِّث المجلسي (رحمه الله) أنَّه لم يستبعد حَمْله على التقية، ولكنَّه منافٍ لما تقدمت حكايته عن الشَّيخ (رحمه الله) من تصريحه بأنَّه لم يعتبر أحد من الفقهاء ذلك -ويقصد بالفقهاء فقهاء العامَّة-.
وعليه، فإنَّ حَمْله على التقيَّة في غير محلِّه.
ثمَّ لا يخفى أنَّ هذا الحكم -كراهةً أو تحريماً- إنَّما هو في حقِّ الرجل لاختصاص دليله به، فلا كراهة ولا تحريم في حقِّ المرأة، بلا خلاف فيه، فيرفع اليد بذلك عن قاعدة الاشتراك، مع أنَّ عمدة مستندها الإجماع، وتنقيح المناط، ونحوه من الأدلَّة اللبيَّة، فلا تشمل الموارد التي يختلف فيها الصِّنفان من حيث المناسبة، كما في هذه المسألة.
والمراد بعقص الشَّعر هو جمعه في وسط الرأس وشدِّه، وقد فسَّره صاحب مجمع البحرين بذلك، حيث قال: عقص الشَّعر جمعه وجعله في وسط الرأس، وفي العين: العقص أخذك خصلةً من شعر فتلويها، ثمَّ تعقدها، حتَّى يبقى فيها التواء، ثمَّ ترسلها، ويقرب منه ما عن الفائق: أنَّه الفتل، وفي الصحاح أنَّه: ضَفْرُهُ ولَيُّهُ على الرَّأس، إلى غير ذلك من عبارات اللغويين.
ولا يهمّنا تحقيق ذلك، بعد عدم ثبوت الحرمة والبطلان بالعقص.
ولا يخفى عليك أنَّه لو ثبت النهي عن العقص، فلا يكون نهياً عن العبادة، أو جزئها، بل هو نهي عن شيء خارج عنها، فلا موجب للبطلان.
ولا يحمل النَّهي عن الكراهة هنا على أقليَّة الثواب، بل يبقى على ما هو عليه من الحزازة والمنقصة والمبغوضيَّة.
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويجوز تسميت العاطس، والحمد عند العاطس، والردُّ على المسمِّت*
أقول: يقع الكلام في أربعة أمور:
الأمر الأوَّل: إذا عطس الرَّجل وهو في الصَّلاة استحبّ له أن يحمد الله، كما هو المعروف والمشهور بين الأعلام.
وفي المدارك: «هذا قول علمائنا، وأكثر العامَّة»[7]. (انتهى كلامه)
أما الدليل على ذلك فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جواهر الكلام: ج11، ص78.
[2] وسائل الشيعة: باب 23 من أبواب قواطع الصلاة، ح1.
[3] وسائل الشيعة: باب 23 من أبواب قواطع الصلاة، ح2.
[4] مدارك الأحكام: ج3، شرح، ص468.
[5] الخلاف: ج1، ص510.
[6] وسائل الشيعة: باب 36 من أبواب لباس المصلي، ح1.
[7] مدارك الأحكام: ج3، شرح، ص471.
|