الدرس 138 / الخميس: 04-شباط-2021
ومنها: أنَّه يظهر من بعض الأدلَّة أنَّ الشَّارع المقدَّس تعلَّق غرضه بالإتيان به مجاناً؛ لأنَّه من مناصب السُّلطان الذي أمر الله تعالى بأن يقول: «قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا »، كما أشار صاحب الجواهر.
ومِنَ المعلوم أنَّ القاضي منصوب من قبله (عليه السلام)، فحكمه من هذه الجهة حكم السُّلطان، وكذا المفتي، فإنَّ حكمه من هذه الجهة حكم السُّلطان، كما لا يخفى. وهذا الدَّليل قويٌّ.
ومنها: صحيحة عمَّار بن مروان المرويَّة في الخِصَال «قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كُلُّ شَيْءٍ غُلَّ مِنَ الْإِمَامِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَالسُّحْتُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أجور القضاة، وأُجُورُ الْفَوَاجِرِ، وَثَمَنُ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ الْمُسْكِرِ، وَالرِّبَا بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا الرِّشَا يا عمار في الأحكام، فَإِنَّ ذلِكَ الْكُفْرُ بِالله الْعَظِيمِ وَبِرَسُولِهِ (صلّى الله عليه وآله)ا[1]f68»، وهي واضحة الدَّلالة وصحيحة السَّند.
ومنها: حسنة عبد الله بن سنان «قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَاضٍ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ يَأْخُذُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْقَضَاءِ الرِّزْقَ؟ فَقَالَ: ذلِكَ السُّحْتُ»[2]f69، وهي حسنة بطريق الكُلَيْني، وصحيحة بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله).
هذا، وقد أشكل الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله) على هذه الحسنة، حيث قال: «وفيه: أنَّ ظاهر الرِّواية كون القاضي منصوباً من قِبَل السُّلطان الظَّاهر، بلِ الصَّريح في سُلْطان الجَوْر؛ إذ ما يُؤخَذ مِنَ العادل لا يكون سحتاً قطعاً، ولا شكَّ أنَّ هذا المنصوب غير قابل للقضاء، فما يأخذه سحت من هذا الوجه، ولو فرض كونه قابلاً للقضاء لم يكن رزقه من بيت المال، أو من جائزة السُّلطان محرَّماً قطعاً، فيجب إخراجه عَنِ العموم، إلاَّ أنْ يُقَال: إنَّ المراد الرِّزقُ من غير بيت المال، وجَعْله على القضاء بمعنى المقابلة قرينة على إرادة العِوَض...».
أقول: حَمْل الحسنة على كون المراد مِنَ الرِّزق هو الأُجْرة من غير بيت المال هو الأقرب؛ لأنَّ معنى أَخْذ الرِّزق على القضاء هو كون الرِّزق عوضاً عن عمل القاضي.
ومِنَ المعلوم أنَّه لو كان المراد منه هو الارتزاق من بيت المال لم يكن حينئذٍ عِوَضاً عن عمله، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، بل يُعْطى للحاجة، لا عوضاً عنِ القضاء، كما يرتزق غيره مِنَ الفقراء والضُّعفاء.
والخلاصة: أنَّها دالَّة على حرمة الأُجْرة.
ومنها: ما في الجعفريَّات عن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه جُعِل «مِنَ السُّحتِ... وأَجْرُ القَاْضِي»[3]f70، ولكنَّها ضعيفة بعدم وثاقة موسى بن إسماعيل.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى الجواز، فقد يستدلُّ له برواية حمزة بن حمران «قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: منِ اسْتأكلَ بعِلْمِه افْتَقَر، قُلْتُ: إنَّ في شيعتك قَوْماً يتحمَّلون علومَكُم، ويبثِّونَها في شِيعتِكم، فَلَاْ يُعْدَمُون منهم البرَّ والصِّلَةَ والإِكرامَ، فقال: لَيْسَ اُولئك بمستأكلين، إنَّما ذاك الَّذي يفتي بغير علمٍ ولا هدًى مِنَ الله، لِيُبْطِل به الحُقُوقَ، طَمَعاً في حطامِ الدُّنيا»[4]f71.
وجه الاستدلال فيها: هو أنَّها ظاهرة في حصر الاستئكال المذموم فيما إذا كان لأجل الحكم بالباطل، أو مع عدم معرفة الحقِّ.
وعليه، فيجوز الاستئكال مع العلم بالحق.
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بمحمَّد بن سنان، وجهالة بكر بن عبد الله، وتميم بن بهلول وأبيه.
وثانياً: بما ذَكَره السَّيِّد أبو القاسم الخوئيِّ (رحمه الله)، «من أنَّها مسوقة لدَفْع توهُّم السَّائل أنَّ مَنْ تحمَّل علوم الأئمَّة S، وبثَّها في شيعتهم، ووصل إليه منهم البرّ والإحسان بغير مطالبة، كان من المستأكلين بعِلْمه فأجاب الإمام (عليه السلام) بأنّ هذا ليس من الاستيكال المذموم، وإنّما المستأكلون الذين يفتون بغير علم لإبطال الحقوق، وعلى هذا فمفهوم الحصر هو العقد السلبي المذكور في الرواية صريحاً، وليس فيها تعرّض لأخذ الُاجرة على الحكم بالحقِّ، لا مفهوماً ولا منطوقاً...».
أقول: يحتمل أن يكون مراد الشَّيخ (رحمه الله) في النهاية والشَّيخ المفيد (رحمه الله) في المقنعة، من إطلاق جواز أَخْذ الأُجْرة من بيت المال هو الارتزاق للحاجة، لا عِوَضاً عن القضاء، كما يرتزق غيره مِنَ الفقراء والضُّعفاء والغزاة، والمهاجرين، وغيرهم ممَّنْ هو مشغول بسياسة الدِّين ومصالحه عنِ التَّكسُّب لقوته وقوت عياله وباقي ضروريَّاته.
ثمَّ إنَّ مقدار رزقه منوط بنظر الإمام (عليه السلام) على حسب حال غيره مِنَ المحاويج.
وأمَّا التَّفصيل الذي ذكره العلاَّمة (رحمه الله) في المختلف، فوجهه: أنَّه لا يجوز له أخذ الأجرة في صورة تعيُّن القضاء عليه؛ لما دلَّ على عدم جواز أَخْذ الأُجْرة على الواجب، وأمَّا عدم الجواز في صورة عدم التَّعيُّن، وعدم كونه محتاجاً، فلمَا دلَّ مِنَ النُّصوص على المنع مِنْ أَخْذ الأُجْرة على القضاء.
وأمَّا الجواز في صورة التَّعيُّن والحاجة فلاختصاص روايات المنع بصورة الاستغناء.
ويرد عليه أوَّلاً: أنَّ روايات المنع ليست مختصَّةً بصورة الاستغناء.
وثانياً: ما ذكرناه سابقاً من جواز أخذ الأُجْرة على الواجب.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه يحرم على القاضي أَخْذ الجعل والأجرة؛ لما ذكرناه.
هذا، وقد قال صاحب الجواهر (رحمه الله): «لا بأس بأَخْذ الأُجْرة على ما كان خارجاً عنِ القضاء ومقدِّماته، كالكتابة والرَّسم ونحوهما، مع أنَّه لا ينبغي استعماله من قوام الشَّرع وحفظته، ولا استعمال بعض الأرذال الذين يحتالون لأَخْذ الجُعْل على القضاء بذلك وبالتَّحاكم في مكان مخصوص ونحوه مِنَ الأمور الزَّائدة على القضاء؛ لما فيه مِنَ النُّفرة، وجَلْب التُّهمة، وعدم رغبة النَّاس في الدِّين وأهله...»، وهو جيِّد، بل لا محيص عنه، وينبغي التعفُّف مهما أمكن؛ لأنَّ النَّاس يسارعون إلى الطَّعن في الدِّين وأهله.
[1] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح12.
[2] الوسائل باب 8 من أبواب آداب القاضي ح1.
[3] المستدرك باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح1.
[4] الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح12.
|