وتدل على اشتراط طهارة موضع الجبهة بعض الأخبار التي سنذكرها إن شاء الله تعالى المشتملة على اشتراط الصّلاة على البارية أو السّطح بتجفيف الشّمس، بناءً على إرادة ما يشمل السُّجود عليها من الصّلاة فيها، ضرورةَ كونِ المفهوم حينئذٍ عدم جواز السُّجود عليها إذا لم تجفّفها الشّمس، وإن جفّت بغيرها.
بل قد يُستفاد من صحيح ابن محبوب عن الرضا N كون الحكم مفروغاً منه، قال: «قَالَ: (وسأل الحسن بن محبوب) سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ N عَنِ الْجِصِّ، يُوقَدُ عَلَيْه بِالْعَذِرَةِ، وعِظَامِ الْمَوْتَى، ثُمَّ يُجَصَّصُ بِه الْمَسْجِدُ، أيُسْجَدُ عَلَيْه؟ فَكَتَبَ N: (إليه) إِلَيَّ بِخَطِّه: إِنَّ الْمَاءَ والنَّار قَدْ طَهْرَاه»[i]f486، حيث يفهم منه أنّه لولا أنّ الماء والنار قد طهّراه لم يجز السُّجود عليه.
وأمّا ما أشار إليه العلاّمة المجلسي R في البحار من ظهور بعض الأخبار في عدم اشتراط طهارة موضع الجبهة، كصحيحة علي بن جعفر «أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر N عن البيت والدار لا تصيبهما الشّمس، ويصيبهما البول، ويغتسل فيهما من الجنابة أيُصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال: نعم»[ii]f487.
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر N «قال: سألته عن الشاذكونة تكون عليها الجنابة، أيصلّى عليها في المحمل؟ قال: لا بأس بالصلاة عليها»[iii]f488.
وكذا غيرهما من الأخبار، فهو معارَض بغيره من الأخبار الظاهرة في المنع، كصحيحة زرارة «قال: سألت أبا جعفر N عن البول يكون على السطح، أو في المكان الذي يصلّى فيه، فقال: إذا جفّفته الشّمس فصلّ عليه، فهو طاهر»[iv]f489، وهو ظاهر في المنع إذا لم تجفّفه الشّمس.
وموثّقة ابن بكير «قال: سألت أبا عبد الله N عن الشّاذَكُونَةِ(*) يصيبها الاحتلام، أيصلّى عليها؟ فقال: لا»[v]f490)، مع أنّه يمكن الجمع بينهما بوجوه.
والأقرب: أنّ تُحمل روايات المنع على المنع عن السُّجود خاصّة، والرّوايات المجوّزة على غير محلّ السُّجود بقرينة التسالم، أو الإجماع المحكي بالتواتر، وبقرينة صحيحة ابن محبوب المتقدمة، والله العالم.
الأمر الثاني: المعروف بين الأعلام: أنّه لا يشترط الطهارة فيما عدا موضع الجبهة ممّا يصلَّى عليه، وقد حُكي عن أبي الصّلاح أنّه اعتبر طهارة موضع المساجد السبعة، وعن السّيد المرتضى R أنّه اشترط طهارة مكان المصلّي مطلقاً.
وقدِ استُدل لمذهب المشهور بعدّة من الرّوايات:
منها: صحيحة عليّ بن جعفر[vi]f491، وصحيحة زرارة[vii]f492 المتقدّمتان.
ومنها: صحيحة عليّ بن جعفر الثانية عن أخيه موسى بن جعفر N «قال: سألته عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر، أيصلّى عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس»[viii]f493.
ومنها: موثّقة عمار السّاباطي «قال: سألت أبا عبد الله N عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر، هل تجوز الصّلاة عليها؟ فقال: إذا جفّت فلا بأس بالصّلاة عليها»[ix]f494، بناءً على إرادة اليبوسة والجفاف بغير الشّمس، وإلاّ فتكون طاهرة.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر الثالثة عن أخيه موسى بن جعفر N في حديث «قال: سألته عن البواري يصيبها البول، هل تصلح الصّلاة عليها إذا جفّت من غير أن تُغسل؟ قال: نعم لا بأس»[x]f495، إن أُريد من الجفاف فيه بغير الشّمس.
ومنها: رواية محمّد بن أبي عمير «قال: قلتُ لأبي عبد الله N أصلّي على الشّاذَكُونَةِ، وقد أصابتها الجنابة؟ فقال: لا بأس»[xi]f496، ولكنّها ضعيفة بصالح النيلي الذي هو صالح بن الحكم النيلي، وقد ضعّفه النجاشي.
قال في محكي الوافي: «الشاذكونة بالفارسية: الفراش الذي ينام عليه».
وكذا غيرها من الرّوايات، وهذه الرّوايات، وإن كانت بإطلاقها تشمل موضع السُّجود، إلاّ أنّه لا بد من تقييدها بغيره لما ذكرناه في الأمر الأوّل، فلا حاجة للإعادة.
وأمّا القول المحكي عن أبي الصّلاح فيمكن أن يُستدل له بالنبوي «جنّبوا مساجدكم النجاسة»[xii]f497.
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف بالإرسال.
وثانياً: يحتمل جدّاً أن يكون المراد بالمساجد الأماكن المعدّة للصّلاة المسمّاة بالمسجد، لا مواضع السُّجود.
ثمّ لو فرضنا إرادة هذا المعنى، إلاّ أنّ المتبادر منه مواضع الجِباه دون سائر المواضع.
وربما يستدلّ له أيضاً بصحيحة ابن محبوب المتقدّمة عن الرضا N: «حيث إنّه كتب إليه يسأله «عن الجصّ يُوقد عليه بالعذرة، وعظام الموتى ثم ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إليه بخطه: إنّ الماء والنّار قد طهّراه»[xiii]f498.
وفيه: أنّه لا إطلاق فيها، والقدر المتيقّن فيه خصوص موضع الجبهة.
وأما القول المحكي عن السّيد المرتضى R فقد استُدلّ له بالنهي عن الصّلاة في المجزرة وهي المواضع التي تُذبح فيها الأنعام والمزبلة والحمّامات وهي مواطن النجاسة فتكون الطهارة معتبرة.
وأجيب عن ذلك: بأنّه يجوز أن يكون النهي عن هذه المواضع من جهة الاستقذار والاستخباث المستلزم لمهانة نفس من يستقرّ فيها، فلا يلزم التعدية إلى غيرها.
وبالجملة، فالنهي عن ذلك نهي تنزيهي، فلا يلزم منه التحريم.
ثمّ لو سلمنا بدلالتها على اعتبار الطهارة، فهي تدل عليها بالجملة، ولعلّه بلحاظ كونها شرطاً بالنسبة إلى موضع الجبهة، لا مطلقاً.
نعم الأفضل الاستدلال له بروايتَيْن:
الأُولى: موثّقة ابن بكير «قال: سألتُ أبا عبد الله N عن الشّاذَكُونَةِ يصيبها الاحتلام، أيصلّى عليها؟ فقال: لا»[xiv]f499.
الثانية: موثّقة عمار السّاباطي عن أبي عبد الله N في حديث «قال: سُئِل عن الموضع القذر يكون في البيت، أو غيره، فلا تصيبه الشّمس، ولكنّه قد يبس الموضع القذر، قال: لا يصلّي عليه، وأَعْلِم موضعه حتّى تغسله...»[xv]f500.
هذا وقد حمل جماعة من الأعلام هاتين الموثّقتين على الكراهة.
ولكنّ الأقرب: حملهما على إرادة المنع بالنظر إلى موضع الجبهة فقط، وذلك جمعاً بينهما وبين الأخبار الكثيرة المعتبرة الصريحة الدّلالة على الجواز.
بقي في المقام أمور:
الأوّل: قد عرفت أنّ الصحيح ما ذهب إليه المشهور من عدمِ اشتراط طهارة في ما عدا موضع الجبهة، إلاّ أنّ هذا فيما إذا لم تكن النجاسة متعدّية إلى ثوبه وبدنه، وإلاّ فهي مانعة من هذه الجهة، إلاّ إذا كانت النجاسة معفوّاً عنها، كالدم إذا كان أقل من الدرهم.
ثمّ لا يخفى عليك أنّه لا يوجد في الأدلّة ما يدلّ على أنّ شرط عدم السّراية في المكان من حيث هو، لا من حيث سراية النجاسة إلى الثوب والبدن.
بل الإنصاف: أنّ المنساق من جميع الأدلّة أنّه مع السّراية يلزم تفويت شرط الثوب والبدن، لا أنّ عدم السّراية من شرائط المكان حتّى يُقال: إنّه لا عفو هنا عمّا دون الدّرهم، لاختصاص أدلّة العفو باللباس والبدن.
ومن هنا كان المتّجه فيما نقول باشتراط الطّهارة فيه من المكان كمحّل الجبهة عدم العفو فيه عمّا يعفى عنه في اللباس.
هذا، وقد حُكي عن فخر المحقّقين R أنّه قال: «الإجماع منّا واقع على اشتراط خلوّ المكان من نجاسة متعديّة، وإن كانت معفوّاً عنها في الثوب، والبدن». وكلامه واضح في أنّه شرط في المكان من حيث هو، لا من حيث سراية النجاسة إلى الثوب والبدن. ولكنّه ضعيف لما عرفت.
[i] الوسائل باب 30 من أبواب النجاسات ح3.
[ii] الوسائل باب 30 من أبواب النجاسات ح2.
[iii] الوسائل باب 30 من أبواب النجاسات ح5.
[iv] الوسائل باب 29 من أبواب النجاسات ح3.
[v] الوسائل باب 30 من أبواب النجاسات ح4.
[vi] الوسائل باب 24 من أبواب أحكام المساجد ح2.
[vii] الوسائل باب 81 من أبواب النجاسات ح1.
[viii] الوسائل باب 30 من أبواب النجاسات ح6.
[ix] الوسائل باب 29 من أبواب النجاسات ح4.
(1 2) الوسائل باب 11 من أبواب أحكام المساجد ح14.
(*) الحُشّ: الكنيف أو المرحاض (لسان العرب 6:288).
(3 4) الوسائل باب 11 من أبواب أحكام المساجد ح65.
[x] الوسائل باب 4 من أبواب مكان المصلي ح1.
[xi] الوسائل باب 5 من أبواب مكان المصلي ح2.
[xii] الوسائل باب 4 من أبواب مكان المصلي ح2.
[xiii] الوسائل باب 6 من أبواب مكان المصلي ح2.
[xiv] الوسائل باب 6 من أبواب مكان المصلي ح4.
[xv] الوسائل باب 9 من أبواب مكان المصلي ح1.
|