الأكل والشُّرب المُعتاد وغيره (1):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومهما يكن، فالنِّيّة في الصَّوم كما تقدَّم في الصَّلاة، حيث قلنا هناك: إنَّها شرطٌ، وليست جُزءاً، وكذلك نقول هنا، وذكرنا الأدلَّة بالتَّفصيل، فراجع، فإنَّه مهمّ.
وقال بعضهم: هي بالشَّرط أشبه.
والإنصاف: أنَّها شرطٌ، لا سيَّما هنا، حيث إنَّه ينوي الصَّوم غداً من اللَّيل، ولا يُشترط أن تكون مقارنةً لأوَّل آنات الصَّوم.
ثمَّ إنَّه بقي شيء في المقام لابُدّ من التَّنبيه عليه: وهو أنَّه لا يُعتبر في الصَّوم أن تكون التُّروك المُعتبرة فيه ناشئةً عن عزمه؛ لأنَّ للتُّروك أسباباً كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى؛ إذ قد يجتمع مع العزم على التَّرك عدم المقتضي للفعل، فيكون التَّرك مُستنداً في العرف إلى عدم المقتضي، لا إلى العزم على التَّرك.
وبالجملة، فإنَّه يكفي في مقام الامتثال مُجرَّد عدم ارتكاب المُفطِّرات وإنْ كان ذلك لعدم المقتضي لها، أو لعدم وجود الطَّعام والشَّراب عنده. فإذا أمرنا المولى سبحانه وتعالى في شهر رمضان المبارك بترك الأكل والشُّرب والنِّكاح ونحو ذلك من التُّروك، فإنَّه يكفي في مقام إطاعة أمره أنْ يعزم المكلَّف على ترك تلك الأُمُور وأنْ لا يفعلها وإن كانت تلك الأمور أو بعضها غير حاصلةٍ لديه.
وبالجملة، فإنَّه يكفي في المقام أنْ يعزم على ترك المُفطِّرات لو كانت موجودةً وإنْ لم تكن حاضرةً لديه، وليس المطلوبُ جَعْلَ سبب التَّرك مُنحصراً في هذا العزم، بأنْ يكون الترك دائماً ناشئاً عنه، بل قد يكون التَّرك لأجل عدم المقتضي، أو عدم وجود المُفطِّرات في الخارج.
ومن هنا، لو عزم في اللَّيل على أنْ لا يأكل في الغد بنيَّة الصَّوم ، لكفى ذلك في المقام وإنْ نام عقيب هذه النِّيّة طُول النَّهار، أو غفل عن الأكل، إلى أن ينتهي اليوم، فإنَّ صومه صحيح.
وهذا بخلاف ما لو أمرنا المولى بفعل شيء، كالوقوف بعرفات يوم التَّاسع من ذي الحِجّة، أو الوقوف بالمُزدلفة من فجر يوم العاشر من ذي الحِجَّة إلى شُرُوق الشَّمس، فإنَّه لابُدّ في تحقُّق امتثال هذا الأمر من صُدور الفعل عن إرادة واختيار، فلو نوى المكلَّف الوقوف بعرفة قبل الزَّوال من يوم التَّاسع، ثمَّ غفل عن هذه النِّيّة إلى أنْ غابت الشَّمس، أو نام قبل الزَّوال ولم يستيقظ إلاَّ بعد الغروب، فإنَّه لا يكفي ذلك في امتثال الأمر؛ لأنَّه يُعتبر في صحّة الفعل صدوره عن إرادة واختيار، ونيّته السَّابقة لا تكفي ما لم تكن مُستمرّةً إلى زمن حصول الفعل.
نعم، إذا نوى الوقوف أوَّل الوقت بأن دخل الوقت، ونوى الوقوف، ثمَّ غفل عن ذلك، أو نام إلى وقت الغروب، لكفى ذلك، والله العالم.
* * *
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه يجب الإمساك عن كلِّ مأكولٍ ومشروبٍ، مُعتاداً كان كالخبز، والفواكه، والماء، ونحوهما، أو غير مُعتادٍ كالحصى والتُّراب والبَرَد وعصارة الأشجار ونحوها.
قال صاحب المدارك (رحمه الله): «أمَّا تحريم المُعتاد من كلِّ مأكول ومشروب فعليه إجماع العُلماء، ويدلّ عليه قوله تعالى: « وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ...﴾ [البقرة: 187]»[1].
وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده في المُعتاد منهما بيننا، بل بين المُسلمين، بل لعلَّه من الضَّروريّات المُستغنية عن ذِكْر ما دلّ عليه من الكتاب المبين، وسُنَّة سيِّد المُرسلين، فيفسد حينئذٍ في تعمُّده الصَّوم، ويجب القضاء والكفَّارة...»[2].
والإنصاف: أنَّه لا حاجة للإطالة في ذلك؛ لوضوح المسألة عند كلِّ المسلمين قاطبةً، قديماً وحديثاً، بل هي من الضَّروريّات.
نعم، يقع الكلام في غير المُعتاد منهما، ففي المدارك: «فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريمه أيضاً...»[3].
وفي الجواهر: «والمشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً أنَّه كالمُعتاد في الحُكم شهرةً عظيمةً، بل لم يُحكَ الخلاف إلاَّ عن الإسكافيّ، والمرتضى، فلم يُفسدا الصَّوم بابتلاع غير المُعتاد، كالحصاة ونحوها...»[4].
ولكن يظهر من السّيِّد المرتضى (رحمه الله) في النَّاصريّات أنَّه غير مُخالفٍ في المسألة، حيث قال: «ولا خلاف في ما يصل إلى جوف الصَّائم من جهة فمه إذا اعتمد أنَّه يُفطِّره، مثل الحصاة، والخرزة، وما لا يُؤكل ولا يشرب.
وإنَّما يُخالف في ذلك الحسن بن صالح، وقال: إنَّه لا يُفطِّر، ورُوي نحوه عن أبي طلحة. والإجماع مُتقدِّم ومُتأخِّر عن هذا الخلاف، فسقط حكمه...»[5].
نعم، المُخالف كما يظهر منه هو من أبناء العامَّة، وهو الحسن بن صالح، وأبو طلحة.
وعن الخلاف للطوسيّ (رحمه الله) دعوى إجماع المسلمين على أنَّ أكل البَرَد مُفطِّرٌ، وحكمَ بانقراض المُخالف، قال: «دليلنا: إجماع المسلمين، فإن هذا الخلاف قد انقرض»[6].
وعن المنتهى أنَّه قال: «فقد ذهب علماؤنا إلى أنَّه يُفطِّر... وهو قول عامَّة أهل الإسلام إلاَّ ما يستثنيه، وقال الحسن بن صالح بن الحسن: لا يُفطر بما ليس بطعام ولا شراب، وحكى عن أبي طلحة الأنصاريّ أنَّه كان يأكل البَرَد في الصَّوم، ويقول: ليس بطعام ولا شراب...»[7].
والخُلاصة: أنَّ المسألة متسالمٌ عليها بين كلِّ المسلمين، إلاَّ هذَيْن الرَّجُلَيْن، وكفى بذلك دليلاً على مُفطِّريّة غير المُعتاد منهما.
أضف إلى ذلك: أنَّ النَّهي عن الأكل والشُّرب في الكتاب المجيد، والسُّنّة النَّبويّة الشَّريفة يشمل غير المُعتاد أيضاً، وعدم اعتياد المأكول والمشروب لا يقتضي عدم صِدْق الأكل والشُّرب.
وبالجملة، فالمعتاد وغير المعتاد سواءٌ في صدق الأكل والشرب عليها.
وأمَّا ما حُكي عن السّيِّد المرتضى (رحمه الله) في بعض كتبه من نفي المُفطِّريّة، وكذا عن ابن الجنيد (رحمه الله)، فقد يُستدلّ لهما ببعض الأدلَّة:
منها: انصراف الأكل والشُّرب إلى المُعتاد منهما؛ لأنَّه المُتعارف، ويبقى الباقي على أصل الإباحة.
وفيه: أنَّ دعوى الانصراف ليست تامّةً؛ لوضوح صِدْق الأكل والشُّرب لُغةً وعرفاً على غير المُعتاد منهما، كصِدْقه على المُعتاد منهما، بلا فرق من هذه الجهة، إلاَّ في نُدْرة أكل وشُرب غير المُعتاد، وهذا لا يضرّ في المقام.
وقد ورد في جملة من الرِّوايات النَّهي عن أكل التُّراب إلاَّ التُّربة الحُسَينيّة للشِّفاء: ففي مرسلة أبي يحيى الواسطيّ عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الطِّين حرامٌ كلّه، كلحم الخنزير، ومَنْ أكله، ثمَّ مات فيه، لم أُصلّ عليه، إلاّ طين القبر، فإنَّ فيه شفاء من كلّ داءٍ، ومَنْ أكله بشهوة لم يكن له فيه شفاء»[8].
ولكنَّها ضعيفة بالإرسال. وكذا غيرها من الرِّوايات الكثيرة.
[7] المنتهى: (ط. ق) ج2، ص563.
[8] الوسائل باب 59 من أبواب الأطعمة المحرَّمة ح1.
|