وللمتاجر تفسيرات: الأوَّل: ما يُشترى من الغنائم الحربيّة حال الغيبة، فإنَّها بأسرها أو بعضها للإمام (عليه السلام)، وهي مباح لنا، لا بمعنى إسقاط الخُمُس من مكسبها، بل عن أصلها.
الثَّاني: ما يُكتسب من الأرض والأشجار المختصَّة به (عليه السلام)، ولو ألحق هذا بالمكاسب المطلقة كان أقوى.
الثَّالث: ما يُشترى ممَّنْ لا يُخرج الخُمُس استحلالاً أو اعتقاداً لتحريمه، فإنَّه يُباح التّصرُّف وإن كان بعضه للإمام (عليه السلام) وذويه.
وهذه التَّفسيرات كلّها حسنة، وقد علّل الأئمَّة (عليهم السلام) ذلك بحلّ الصَّلاة والمال وطيب الولادة)([1]).
وقد تبعه في ذلك جماعة، منهم الشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في المسالك.
وقد ناقش جماعة من الأعلام في هذه التَّفسيرات للمناكح والمساكن والمتاجر، وذكروا عبارات مجملةً، حتَّى قال صاحب الجواهر (رحمه اﷲ): (فلا ريب في إجمال عبارات الأصحاب في هذا المقام وسماجتها وعدم وضوح المراد منها، أو عدم صحَّته، بل يخشى على مَنْ أمعن النَّظر فيها مُريداً إرجاعها إلى مقصد صحيح من بعض الأمراض العظيمة قبل أن يأتي بشيء، وظنِّي أنَّها كذلك مجملة عند كثير من أصحابها وإنْ تبعوا في هذه الألفاظ بعض مَنْ تقدَّمهم ممَّنْ لا يعلمون مراده، وليتهم تركونا والأخبار، فإنَّ المحصَّل من المعتبر منها أوضح من عباراتهم، إذ هو إباحتهم حقوقهم التّصرفيَّة والماليَّة، كالأنفال مُطلقاً، سواء كان ابتداء حصولها في أيدينا، أو انتقلت إلينا من يد غيرنا ممَّنْ خالفنا في الدِّين، حتَّى ما يحصل للشِّيعة من الغنائم مع سلاطين الجور، مناكح، وغيرها)([2]).
أقول: بعد أن ثبتت حلّيّة وإباحة الأنفال مطلقاً في عصر الغيبة، لم يعد مهمّاً بيان المراد من المناكح والمساكن والمتاجر.
إذا عرفت ذلك، فنقول: أمَّا ما كان من الأنفال من قبيل الأرضين الموات والمعادن ورُؤوس الجبال وبطون الأودية وتوابعها ممَّا جرت السِّيرة على المعاملة معها معاملة المباحات الأصليّة، فلا ينبغي الارتياب في إباحتها للشِّيعة في زمن الغيبة.
ويشهد لذلك مضافاً إلى السِّيرة القطعيّة، وعدم الخلاف فيه على الظَّاهر، إلاَّ من شذَّ جملة من الرِّوايات الدالَّة على ذلك، وعلى إباحة مُطلق الأنفال:
منها: صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمَّال عن أبي عبد اﷲ (عليه السلام) (قَاْل: قَاْل رجلٌ وأنا حاضر : حلِّل لي الفروج، ففزع أبو عبد اﷲ (عليه السلام)، فقال له رجلٌ: ليس يسألك أنْ يعترض الطَّريق، إنَّما يسألك خادماً يشتريها، أو امرأة يتزوّجها، أو ميراثاً يُصيبه، أو تجارةً أو شيئاً أُعطيه، فقال: هذا لشيعتنا حلالٌ، الشَّاهد منهم والغائب، والميِّت منهم والحيّ، وما يُولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما واﷲِ لا يحلّ إلاَّ لِمَنْ أحللنا له...)([3]).
وذكرنا هذه الصَّحيحة سابقاً في ضمن الرِّوايات الواردة في تحليل الخُمُس، وهي مطلقة تشمل حقّهم (عليهم السلام) من الخُمُس وغيره، كالأنفال، ونحوها، وقد عرفت حال الخُمُس، فلا حاجة للإعادة.
ومنها: صحيحة الفُضلاء أبي بصير وزرارة ومحمَّد بن مسلم،
كلّهم عن أبي جعفر (عليه السلام) (قَاْل: قَاْل أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): هلك النَّاسُ في بطونهم وفروجهم؛ لأنَّهم لم يُؤدُّوا إلينا حقَّنا، أَلَا وإنَّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلٍّ)([4]).
ورواها الشَّيخ الصَّدوق (رحمه اﷲ) في العِلل بطريق صحيح أيضاً، إلاَّ أنَّه قال: (وأبناءهم) بدل (آباءهم)، وهو الأصحّ.
وهذه الصَّحيحة ذكرناها سابقاً عند الكلام في تحليل الخُمُس، وهي مطلقة، فتشمل جميع حقوقهم من الخُمُس والأنفال، وغيرها، وقد تقدَّم حكم الخُمُس.
ومنها: رواية الحارث النّصريّ المتقدِّمة (قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فجلست عنده، فإذا نجيّة قد استأذن، عليه فأذن له، فدخل إلى أن قال: يا نجيّة، إنَّ لنا الخُمُس في كتاب اﷲ، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال، وهما واﷲ! أوَّل مَنْ ظلمنا حقَّنا في كتاب اﷲ إلى أن قال: اللَّهمّ إنَّا قد أحللنا ذلك لشيعتنا)([5])، وهي ضعيفة بجهالة جعفر بن محمَّد بن حكيم، ووجوده في كامل الزِّيارات لا ينفع؛ لعدم كونه من مشايخه المباشرين.
ومنها: رواية يُونس بن ظبيان أو المُعلَّى بن خُنَيْس (قال: قلتُ: لأبي عبد اﷲ (عليه السلام): ما لكم من هذه الأرض؟ فتبسّم، ثمَّ قال: إنَّ اﷲ
بعث جبرئيل، وأمره أنْ يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض إلى أن قال: وما كان لنا فهو لشيعتنا...)([6])، وهي مطلقة من حيث قوله (عليه السلام): (وما كان لنا) فيشمل الخمس والأنفال، وغيرهما، إلاَّ أنَّها ضعيفةٌ بجملة من الأشخاص. وكذا غيرها من الرِّوايات المستفيضة، والَّتي منها صحيحة عمر بن يزيد المتقدِّمة.
وقد تحصَّل من ذلك: أنَّ الأصحّ هو تعميم الإباحة لمطلق الأنفال.
نعم، ورد في ستِّ روايات: أنَّ ميراث مَنْ لا وارث له يُعطى لفقراء أهل بلد الميِّت وضعفائهم، ولكنَّ جميعها ضعيف السَّند([7]).
وهناك رواية واحدة([8]) قد يُفهم منها عدم اشتراط كونه الفقراء من أهل بلده، ولكنَّها أيضاً ضعيفة؛ لأنَّ محمَّد بن زياد الموجود في السَّند مشترك بين عدة أشخاص.
بقي شيء في المقام، وهو أنَّ المقصود بالتَّحليل والإباحة ليس مجرَّد جواز التّصرُّف وحلّ الانتفاع، وإلاَّ لم يجز وطء الأمة الَّتي بعضها للإمام (عليه السلام) ولا وطء ما كان جميعها له (عليه السلام)، فإنَّ تأثير مثل هذا التَّحليل في جواز الوطء مُشكلٌ، وكذا بيعها، وعتقها، وبيع المسكن، وغير ذلك من التّصرُّفات المتوقِّفة على الملك، بل المقصود
بالإباحة والتَّحليل: إمضاء جميع التّصرُّفات المتعلّقة بما يستحقّه الإمام (عليه السلام) من النَّقل والانتقال والتّملُّك بالحيازة، وغير ذلك على النحو المتعارف.
ولقد أجاد المصنِّف (رحمه اﷲ)، حيث قال: (وفي الغيبة تحلّ المناكح، كالأمة المسبيّة، ولا يجب إخراج خُمُسها، وليس من باب التَّحليل، بل تمليك للحصَّة، أو للجميع من الإمام (عليه السلام)...).
([1]) حكاه عنه في الجواهر ج16، ص149، 150.
([2]) الجواهر: ج16، ص152.
([3]) الوسائل باب 4 من أبواب الأنفال ح4.
([4]) الوسائل باب 4 من أبواب الأنفال ح1.
([5]) الوسائل باب 4 من أبواب الأنفال ح14.
([6]) الوسائل باب 4 من أبواب الأنفال ح17.
([7]) راجع باب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة.
([8]) الوسائل باب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة ح7.
|