ثمَّ إنَّه بقي شيء لابُدّ من التَّنبيه عليه، وهو أنَّه هل يجوز للمالك التّصرُّف في سهم الإمام (عليه السلام) مستقلاًّ، أم لابُدّ من مراجعة الحاكم الشَّرعيّ، وهو الفقيه المأمون؟
وعلى تقدير وجوب مراجعة الحاكم الشَّرعيّ، فهل يكفي إذنه في جواز التّصرُّف، كما هو صريح المصنِّف (رحمه اﷲ) هنا، وغيره أيضاً، أم لا يكفي ذلك، بل يجب مباشرته بنفسه، كما عن جماعة من الأعلام؟
إذا عرفت ذلك، فنقول: إنَّ المشهور بين الأعلام أنَّ الولاية في صرف سهم الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة هي للفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى، أي الحاكم الشَّرعيّ.
وقد أشار بعض الأعلام إلى أنَّ الحاكم الشَّرعيّ منصوبٌ من قِبله (عليه السلام) على وجه العموم، فيكون له تولّي ذلك كما يتولّى أداء ما يجب على الغائب من الدُّيون؛ لأنَّه وليُّ الغائب.
وقال الشَّهيد الثَّاني (رحمه اﷲ) في المسالك: (ولو تولَّى ذلك غيره كان ضامناً عند كلّ مَنْ أوجب صرفه إلى الأصناف...)([1]).
وحُكي عن المجلسيّ (رحمه اﷲ) في زاد المعاد: (وأكثر العلماء قد صرَّحوا بأنَّ صاحب الخُمُس لو تولَّى دَفْع حصَّة الإمام (عليه السلام) لم تبرأ ذمَّته، بل يجب عليه دفعها إلى الحاكم، وظنِّي أنَّ هذا الحكم جارٍ في جميع الخُمُس)([2]).
وبالمقابل، حُكي عن الشَّيخ المفيد (رحمه اﷲ) في الغريّة جواز صرفه لمَنْ في يده بلا حاجة لمراجعة الحاكم الشَّرعيّ، ومال إليه صاحب الحدائق (رحمه اﷲ)، محتجّاً بما نصّه: (أنَّا لم نقف له على دليل، وغاية ما يستفاد من الأخبار نيابته بالنسبة إلى الترافع إليه والأخذ بحكمه وفتاواه، وأمّا دفع الأموال إليه فلم أقف له على دليل لا عموماً ولا خصوصاً، وقياسه على النّواب الَّذي ينوبونهم (عليهم السلام) حال وجودهم لذلك، أو لما هو أعمّ منه لا دليل عليه)([3]).
أقول: قدِ استُدلّ لما ذهب إليه المشهور من أنَّ الولاية في ذلك للحاكم الشَّرعيّ، وأنَّه لا يجوز للمالك أنْ يتولّى ذلك بنفسه بثلاثة أدلَّة:
الأوَّل: الولاية على مال الغائب، حيث إنَّ الحاكم الشَّرعيّ له الولاية على مال الغائب من جهة حفظ ماله وأداء ما يكون على الغائب من الدَّين، ونحو ذلك.
وفيه: أنَّ أدلَّة الولاية على مال الغائب لا تشمل جاعل الولاية وهو الإمام (عليه السلام) وعليه، فدعوى ولاية الحاكم الشَّرعيّ على الغائبين حتَّى الإمام (عليه السلام)؛ باعتبار أنَّه غائبٌ، مقطوعة الفساد، فإنَّ الإمام (عليه السلام) هو الوليّ لا المولّى عليه.
الدَّليل الثَّاني: عموم نيابة الفقيه في زمن الغيبة عن الإمام (عليه السلام) في كلِّ ما يرجع إليه.
وبالجملة، فهو منصوبٌ من قِبل الإمام (عليه السلام)، وعُمدة دليل النَّصب هو التَّوقيع المرويّ عن صاحب الزَّمان (عج)، وهو ما رواه في الوسائل من كتاب إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة عن محمَّد بن عصام عن محمَّد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب (قَاْل: سألتُ محمَّد بن عثمان العَمْري أنْ يُوصل لي كتاباً، قد سألتُ فيه عن مسائل أشكلتْ عليَّ، فورد التَّوقيع بخطِّ مولانا صاحب الزَّمان (عليه السلام): أمَّا ما سألت عنه أرشدك اﷲ وثبّتك إلى أن قال: وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حُجَّتي عليكم، وأنا حُجَّة اﷲ،
وأمَّا محمَّد بن عثمان العَمْري (رضي اﷲ عنه) وعن أبيه من قبل، فإنَّه ثقتي، وكتابه كتابي)([4]).
ورواه في الوسائل أيضاً عن الشَّيخ (رحمه اﷲ) في كتاب الغيبة عن جماعة عن جعفر بن محمَّد بن قولوَيْه وأبي غالب الزُّراريّ، وغيرهما، كلّهم عن محمَّد بن يعقوب.
وقد ذكروا أنَّ مفاد هذا التَّوقيع هو إقامة الفقيه المتمسّك برواياتهم مقامه (عليه السلام) بإرجاع عوام الشِّيعة إليه في كلِّ ما يكون للإمام (عليه السلام) مرجعاً فيه كي لا يبقى شيعته مُتحيّرين في أزمنة الغيبة، لا مجرَّد حُجيّة قولهم في نقل الرِّواية أو الفتوى.
وفيه أوَّلاً: أنَّ هذا التَّوقيع ضعيف بجهالة محمَّد بن محمَّد بن عصام، وجهالة إسحاق بن يعقوب، وبطريق الشَّيخ في الغيبة بجهالة إسحاق بن يعقوب.
وثانياً: أنَّ هذا التَّوقيع لا يخلو من إجمال في المراد، فهل الرُّجوع إليهم في حُكم الحوادث فيدلّ على حُجِّيّة الفتوى، أم في حسمِها فيدل على نُفوذ القضاء؟
وعليه، فأدلَّة النِّيابة قاصرةٌ عن إثبات هذا النَّحو من العموم.
الدَّليل الثَّالث: أنَّ الأصل عدم جواز التّصرُّف في مال الغير إلاَّ بإذنه، والقدر المتيقَّن من الخروج عن هذا الأصل هو ما لو كان
التّصرُّف من الحاكم الشَّرعيّ، أو كان التّصرُّف بإذنه ورضاه؛ لكونه بمرتبة عالية من العدالة والأمانة والاهتمام بالمصالح الدِّينيّة والقدرة على تمييز الأهمّ والمُهمّ فيها، فإنَّه حينئذٍ يكون أبصر بمواقعه وأعرف بمواضعه، فيتعيَّن الرُّجوع إليه في تعيين المصرف، وفي غير ذلك، يُشَكُّ في جواز التّصرُّف، والأصل عدمه.
أضف إلى ذلك: أنَّه ليس للمالك إفراز حصّة الخُمُس من ماله إلاَّ برضا الشَّريك الآخر، وهو صاحب الخُمُس، وإنَّما له ذلك بإجازة الحاكم الشَّرعيّ، سواء أكانت حصَّة الخُمُس في العين أم في الذِّمّة.
وهذا الدَّليل متين.
والخلاصة: كما قال السّيِّد الحكيم (رحمه اﷲ) في المستمسك: (وأنَّ عزل الحاكم الشَّرعيّ عن الولاية عليه أي على سهم الإمام (عليه السلام) يُؤدِّي إلى ضياع الزَّعامة الدِّينيّة، والاحتفاظ بها من أهمّ الواجبات الدِّينيّة؛ لأنَّ بها نظام الدِّين، وبها قِوام المذهب، وبها تُحفظ الحقوق لأهلها، ولولاها لاختلّ أمر الدِّين والدُّنيا...)([5]).
وهو جيِّد جدّاً، ولك أن تجعل هذا دليلاً رابعاً.
فالدليلان الثالث والرابع هما العمدة في المقام.
([2]) حكاه عنه في الجواهر ج16، ص178.
([3]) الحدائق: ج12، ص432.
([4]) الوسائل باب 11 من أبواب صفات القاضي ح9.
([5]) المستمسك: ج9، ص584.
|