الأمر الثاني الذي أورده الشيخ النائيني R على هذا الاستصحاب: هو «أنّ للحكم مرحلتين، مرحلة الجعل، ومرحلة المجعول، فإذا شكّ في الأوّل وكان موضوعاً للأثر جرى فيه الاستصحاب وجوداً، أو عدماً، كما أنّ الثاني لو كان له أثر، وكانت له حالة سابقة، كان مجرى للاستصحاب أيضاً».
وأمَّا المترتّب على مرحلة المجعول، ومقام الفعلية، كاتِّصاف الحيوان الخارجي في المقام بعدم الحرمة على تقدير الذبح الشرعي، فلا يجري فيه الاستصحاب، لا بلحاظ هذه المرحلة، لعدم الحالة السابقة، ولا بلحاظ مرحلة الجعل، لأنّ استصحاب عدم الجعل لإثبات العدم في مرحلة المجعول من الأصل المثبت الذي لا نقول به.
وأشكل عليه السيد أبو القاسم الخوئي R، حيث قال: «إنّ تغاير مقام الجعل عن المجعول، واختلاف سنخ الحكم بلحاظ المرحلتين، وإن تكرّر في كلمات شيخنا الأستاذ (قدس سره) في موارد عديدة من أبحاثه الشريفة؛ وفرَّع عليه عدم إثبات أحدهما بالاستصحاب الجاري في الآخر مصرّاً عليه، إلاَّ أنّه لا يمكن المساعدة عليه بوجه، فإنّ الحكم الشرعي إنّما يجعل بجعل واحد مرّة واحدة، غاية الأمر أنّه مجعول للموضوع المقدّر وجوده على سبيل القضيّة الحقيقيّة، فإذا لم يوجد موضوعه خارجاً بقي مقصوراً على مقام الإنشاء، ويعبّر عنه حينئذٍ بمرحلة الجعل، وإذا وجد عبّر عنه بمرحلة المجعول، وأصبح الحكم فعليّاً بنفس الجعل الأوَّل لا بجعل آخر، فالفعليّة تابعة للجعل، والقضية قبل تحقق الموضوع فرضيّة تقديريّة وبعده فعليّة تحقيقيّة، لا أنّ هناك سنخَيْن من الحكم يمتاز أحدهما عن الآخر في هويته وحقيقته، ليكون إثبات أحدهما بالأصل الجاري في الآخر من الأصل المثبت.
ومن ثمَّ يجري استصحاب عدم النسخ لدى الشكّ في زوال الجعل به، ويحكم ببقائه، وفعليته لدى تحقّق موضوعه، من غير أن تتطرق شبهة المثبتية، مع أنّها لو تمّت لعمّت لعدم الفرق في مناطها بين استصحاب الوجود أو العدم، كما لا يخفى، فكما أنّ استصحاب الجعل يثبت الحكم الفعلي فكذا استصحاب عدمه ينفيه بمناط واحد.
وعليه، فإذا شكّ في أنّ الحيوان الذي اتّخذ منه هذا اللباس هل جعلت له الحرمة، أم لا، استصحب العدم، وترتّب عليه جواز الصَّلاة فيه فعلاً».
أقول: أمَّا عدم جريان الاستصحاب في مقام الفعليّة، وفي مرحلة المجعول، فواضح لعدم الحالة السابقة، ولذا سلَّم بذلك السَّيد أبو القاسم الخوئي R.
أما قوله: «بأن الحكم الشرعي إنّما يجعل بجعل واحد مرة واحدة».
ففيه: أنه لا كلام في ذلك، ولم يقل أحد بأنّه يجعل مرتين، بل ذكر الشيخ النائيني في أكثر من مناسبة أنّ هناك جعلاً واحداً، وحكماً واحداً، فإن وجد موضوع الحكم في الخارج أصبح فعليّاً، وإلا بقي على إنشائه.
وبالجملة، فلا كلام في أنّ الفرق بين مرحلة الجعل ومرحلة المجعول هو كون الثاني فعليّاً لفعليّة موضوعه بخلاف الأوّل، وهذا لا يوجب اختلافاً في سنخ الحكم.
ولكنّ الكلام ليس هنا، وإنّما الكلام في عدم جعل الحكم، فإنَّ استصحاب عدم جعله لإثبات الإتصاف بالعدم يكون من الأصل المثبت.
وبالجملة، فإنّ استصحاب عدم جعل الحرمة لهذا الحيوان الخارجي لإثبات اتصافه بعدم الحرمة الفعليّة يكون من أوضح أنحاء الأصل المثبت.
وليس الكلام بعد جعل الحكم ليُقال: لا فرق بين مرحلة الجعل، ومرحلة المجعول، إلاَّ بفعليّة الثاني بفعليّة موضوعه، ولا فرق بينهما في نفس الحكم، وليس هناك جعلان.
وأمَّا تنظيره المسألة على مسألة استصحاب عدم النسخ عند الشكّ في زوال الجعل، ففيه:
أوَّلاً: أنَّ مسألة بقاء الحكم عند الشكّ في نسخه متسالم عليها بين الأعلام، وليست من باب الاستصحاب، وإلاَّ لو كانت كذلك لكان من استصحاب الحكم الكلي، وقد عرفت ما فيه.
وأمَّا القول: بأن هذا مستثنى من عدم صحَّة استصحاب الحكم الكلي للتسالم على جريانه؛ ففيه: أنّ هذا التسالم يكشف عن أنّ الالتزام ببقاء الحكم عند الشكّ في النسخ ليس من باب الاستصحاب.
وثانياً: لو سلّمنا بأنّها من الاستصحاب فقد عرفت أنّ الكلام في العدم، لا في الجعل.
وعليه، فإذا شكّ في أنّ الحيوان الذي اتّخذ منه هذا اللباس، هل جعلت له الحرمة، أم لا، فلا يمكن استصحاب عدم الحرمة ممّا يترتّب عليه جواز الصَّلاة في هذا اللباس.
والخلاصة، أنّ هذا الوجه الثاني من الاستصحاب غير تامّ أيضاً.
ثمَّ لا يخفى أنَّ هذا الاستصحاب لو سلّمنا بجريانه فإنّما يجري إذا كان الحيوان المتّخذ منه اللباس مردّداً بين المأكول، وغيره.
وأمّا إذا تردّد اللباس بين غير المأكول، وبين غير الحيوان كالقطن، فلا مجال حينئذٍ للاستصحاب، فإنَّ عدم الحرمة في غير الحيوان سالبة بانتفاء الموضوع، بل المرجع أصل آخر، وهو أصالة عدم اتخاذه من الحيوان، لا عدم حرمته، والله العالم.
|