(1) المعروف بين الأعلام هو الحكم بتذكية المأخوذ من يد المسلم، مستحلاًّ للميتة بالدبغ، وذبائح أهل الكتاب، أو لا، أخبر بالتذكية أو لا، في السوق كان أو لا، بل ومِنْ يدِ مَنْ لم يُعلم إسلامه إذا كان في بلاد المسلمين، فضلاً عمَّن عُلِم وجُهِل استحلاله، بل والمطروح في أرض المسلمين إذا كان عليه أثر الاستعمال، ككونه نعلاً أو خفّاً، حتّى يعلم أنّه ميتة.
أقول: ما هو الأصل عند الشكّ في التذكية؟
المشهور بين الأعلام، بل أغلبهم على أنّ الأصل هو عدم التذكية، فيحكم حينئذٍ ببطلان الصَّلاة إذا لم يحرز شرط التذكية، كما تدلّ موثّقة ابن بكير المتقدّمة، حيث ورد فيها: «إذا علمتَ أنَّه ذكيّ وقد ذكَّاه الذبح».
وذهب صاحب الحدائق R إلى صحَّة الصَّلاة في صورة الشكّ في التذكية استناداً إلى قاعدة الحلّ: «إنّ كلَّ شيءٍ فيهِ حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلالٌ حتَّى تعرفَ الحرامَ بعينه».
ويؤيِّده: موثَّقة سماعة بن مهران «أنّه سأل أبا عبد الله N عن تقليد السَّيف في الصَّلاة، وفيه الفراء، والكِيْمُخْت، فقال: لا بأس، ما لم تعلم أنّه ميتة»[i]f207؛ ورواية عليّ بن أبي حمزة «أنّ رجلاً سألَ أبا عبد الله N وأنا عنده عن الرّجل يتقلّد السّيف، ويصلّي فيه، قال: نعم، فقال الرّجل: إنّ فيه الكِيْمُخْت! قال: وما الكِيْمُخْت! فقال: جلود دواب، منه ما يكون ذكيّاً، ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمتَ أنّه ميتة فلا تصل فيه»[ii]f208، وهي ضعيفة بعلي بن أبي حمزة؛ وحسنة جعفر بن محمد بن يونس «أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن N يسأله عن الفرو والخُفّ، أَلْبسه وأُصلي فيه، ولا أعلم أنّه ذكيّ، فكتب: لا بأس به»[iii]f209.
ويرد عليه: أنَّ قاعدة الحلّ أصل حُكْمِي، وأصالة عدم التذكية أصل موضوعي حاكم عليه، كما أنّ استصحاب النجاسة حاكم على أصالة الطهارة.
وأمّا الرّوايات المؤيِّدة لقاعدة الحلّ فهي محمولة على ما إذا كان أمارة على التذكية، كيد المسلم، أو سوقه، أو كونه مطروحاً في أرض المسلمين، ونحو ذلك.
وقد دلَّت الأخبار الكثيرة على أنّ يد المسلم، أو سوق المسلمين، أمارة على التذكية، بل وجود اللحم، أو الجلد، في أرضهم، أمارة عليها:
منها: صحيحة الحلّبي «قال: سألت أبا عبد الله N عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال: اِشترِ، وصلِّ فيها، حتّى تعلم أنّه ميت بعينه»[iv]f210.
ومنها: صحيحة البزنطي «قال: سألته عن الرّجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء، لا يدري أذكيّة هي، أم غير ذكيّة، أيصلي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر N كان يقول: إن الخوارج ضيَّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنَّ الدين أوسع من ذلك »[v]f211.
ومنها: صحيحته الأخرى عن الرّضا N «قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق، فيشتري الخفّ، لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصَّلاة فيه وهو لا يدري أيُصلّي فيه ؟ قال: نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق، ويُصنع لي، وأصلّي فيه، وليس عليكم المسألة»[vi]f212.
ومنها: موثّقة إسحاق المتقدِّمة عن العبد الصّالح N «أنّه قال: لا بأس بالصَّلاة في الفراء (القز) اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»[vii]f213.
ومنها: رواية الحسن بن الجهم «قال: قلت لأبي الحسن N: أعترض السّوق فأشتري خفّاً، لا أدري أذكي هو أم لا، فقال: صلّ فيه، قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك، قلت: إنّي أضيق من هذا! قال: أترغب عمّا كان أبو الحسن N يفعله»[viii]f214، ولكنّها ضعيفة بسهل بن زياد، وبالإرسال.
ومنها: موثّقة السّكوني عن أبي عبد الله N «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ N سُئِلَ عَنْ سُفْرَةٍ وُجِدَتْ فِي الطَّرِيقِ مَطْرُوحَةً، كَثِيرٍ لَحْمُهَا وخُبْزُهَا وجُبُنُّهَا وبَيْضُهَا، وفِيهَا سِكِّينٌ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ N: يُقَوَّمُ مَا فِيهَا، ثمَّ يُؤْكل، لأَنَّه يَفْسُدُ، ولَيْسَ لَه بَقَاءٌ، فَإِذا جَاءَ طَالِبُهَا غَرِمُوا لَه الثمَّنَ، قِيلَ له: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا يُدْرَى سُفْرَةُ مُسْلِمٍ، أَم سُفْرَةُ مَجُوسِيٍّ! فَقَالَ: هُمْ فِي سَعَةٍ حَتَّى يَعْلَمُوا»[ix]f215.
ثمَّ إنّه يظهر من الرّوايات أنّ اعتبار سوق المسلمين ليس لكونه بنفسه كاليد حجَّة معتبرة، بل لكونه أمارة يُستكشف بها كون البايع مسلماً، فلو كان البايع في سوق المسلمين مجهول الحال، أي لم يعلم أنّه مسلم أو كافر، فيُبنى على أنّه مسلم.
وعليه، فسوق المسلمين أمارة يستكشف بها كون البايع مسلماً فالعبرة أوّلاً، وبالذات إنّما هي بيد المسلم، والسّوق إنّما اعتبر لكونه طريقاً للحجّة، لا لكونه بنفسه حجّة، فلا عبرة بسوق المسلمين إذا علم كون البايع فيه كافراً.
ثمَّ إنّه يُستفاد أيضاً من موثقة إسحاق المتقدِّمة: أنّ الصنع في دار الإسلام قاطع لأصالة عدم التذكية، وإن أُخِذ من كافر، لأنّه مسبوق بيد المسلم بحكم الغلبة، أي أن الصنع في دار الإسلام يكشف عن أن يد الكافر مسبوقة بيد المسلم، فما يؤخذ حينئذٍ من يد الكافر محكوم بالتذكية.
[i] الوسائل باب 55 من أبواب لباس المصلّي ح3.
[ii] الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح9.
[iii] الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح11.
[iv] الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح7.
[v] الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح10.
[vi] الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلّي ح1.
[vii] الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلّي ح1.
[viii] الوسائل باب 5 من أبواب لباس المصلّي ح3 4.
[ix] الوسائل باب 6 من أبواب لباس المصلّي ح3.
|