والخلاصة: أنّه لا يوجد في الأدلَّة اللفظيّة ما يدلّ على اشتراط السّتر بغير الثوب عند تعذّره.
وعليه، فعند الشكّ في جواز التستّر بالحشيش والورق، ونحوهما، فالأصل هو الجواز.
وتوضيحه: أنَّ الشكّ تارةً يكون في اعتبار هيئةٍ خاصةٍ في السّاتر بعد الفراغ عن كفاية الستر بمادته، كأن يكون الشكّ في اعتبار النسج في الصّوف أو القطن أو الوبر ، ونحو ذلك ممَّا له قابليّة النسج واللُبْس، والمرجع حينئذٍ هو أصل البراءة للشكّ في اعتبار هيئةٍ خاصة، والأصل عدمها.
وأخرى يكون الشكّ في كفاية أصل المادة في تحقّق السّتر المأمور به، كالشكّ في الاجتزاء بالسّتر بالطين، ونحوه من المواد التي يُحتمل اعتبار خصوصيّةٍ في المأمور به وهي القابلية للُّبْس غير منطبقة عليها، ففي هذه الحالة يدور الأمر بين التعيين والتخيير، للشك في أنّ الساتر هل هو مقيَّد بذلك تعييناً، أو أنَّ المكلَّف مخيَّر بينه وبين الفاقد لتلك القابليَّة، والمرجع فيه أيضاً هو أصل البراءة عن خصوصيّة التعيين.
وقد عرفت سابقاً أّنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير فإنَّ الأصل هو البراءة عن خصوصيّة التعيين، إلاَّ في مسألتين:
الأولى: فيما لو دار الأمر في الحجيّة بين التعيين والتخيير.
والثانية: في التزاحم في مرحلة الفعليّة فيما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير، وفيما عدا ذلك فالأصل البراءة.
ثمَّ إنّ ما ذكرناه بالنسبة للطين إنّما هو فيما لو حصل الستر به على حسب ما يحصل الستر بغيره من الأشياء المنفصلة عن الجسد، لا على سبيل الطلي به، وإلاّ فمن الواضح أنّه لا يخرج الشخص بطلي الطين أو الحناء ونحوه عن مصداق اسم العاري، إذ لا يخطر في الذّهن مثل الطين والوحل والماء الكدر من عموم الشيء في قوله N في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة: «فإن لم يجد شيئاً يستر به عورته»، إذ الطّين والماء الكدر، ونحوه، ليس شبه الثوب والملحفة والدّرع والخمار والحشيش والورق، ونحوها، فلا يخرج الشخص بذلك عن مصداق العاري.
نعم، لا يبعد الاكتفاء بذلك في السّتر الذي قصد به حفظ الفرج عن النظر، حيث إنّ المقصود بالسّتر في ذلك الباب مجرد المنع عن تعلّق الرؤية بالعورة، وهذا المعنى يحصل بالطين كما يحصل بالسّتر باليدين وبالإليتين، وبالبعد المفرط، أو الاستتار في مكان مظلم، هذا كلّه حال الاختيار.
وأمَّا في حال الاضطرار فقال المصنف R هنا أي في الدروس : «ولو تعذَّر فَطَيَّن العورة، وستر حجمها ولونها، أجزأ، ولو بقي الحجم، وستر اللون، أجزأ مع التعذّر، وفي الإيماء هنا نظر»، وقال في الذكرى: «وفي سقوط الإيماء هنا نظر، من حيث إطلاق الستر عليه، ومن إباء العرف».
ولكن مقتضى الإنصاف: هو الصَّلاة قائماً بركوع وسجود، لأنّ ستر العورة عن الناظر المحترم حاصل بالطلي بالطّين أو النورة، وأمّا ما ذكره المصنّف R من إباء العرف، فهو في غير محلّه لحصول السّتر به في مورد الاضطرار.
ثمَّ لا فرق فيما ذكرناه بين خفاء اللون والحجم معاً، أو خفاء اللون فقط.
(1) كما عرفته فيما تقدم.
(2) ذكر جماعة من الأعلام أنه إذا وجد حفيرة دخلها وصلّى قائماً ويركع ويسجد، وذكر المصنف R في البيان: «أنّه صلّى قائماً أو جالساً ويركع ويسجد إن أمكن، وعن المبسوط ونهاية الأحكام والمهذّب البارع: أنّه يصلي قائماً، ولم يذكر الركوع والسجود، وظاهر العلاَّمة في التذكرة، والمصنّف في الذكرى وهنا في الدروس: التوقّف فيهما، لاقتصارهما على نسبة ذلك للبعض، وعلّل المحقّق وجوب الركوع والسجود: بأن السّتر يحصّل المنع عن المشاهدة، ولا نسلّم أنّ التصاق الساتر شرط.
ويؤيِّد ذلك: ما رواه أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله N «قال: العاري الذي ليس له ثوب إذا وجد حفيرة دخلها، ويسجد فيها، ويركع»[i]f172.
أقول: أمَّا جعله الرواية مؤيِّدة ففي محلّه، لأنّها ضعيفة بالإرسال، فلا تصلح أن تكون دليلاً.
وأمَّا قوله: «إنَّ السّتر يحصّل المنع...».
فيرد عليه: أنّه لو صحّ ذلك لصحّت صلاة من صلّى عارياً في دار مغلقة عليه، أو بيت مظلم، لا يراه أحد، مع أنّه لا خلاف في عدم جواز ذلك، ولا ريب أنَّ الحفيرة المشتملة على الخلاء بحيث يركع، ويسجد، ويجلس فيها، من قبيل ما ذكرناه، وإن تفاوت الاتساع قلّةً وكثرةً.
وبالجملة، فإنَّ مثله يصدق عليه أنّه عارٍ لغةً وعرفاً، فإذا كانت الحفرة تسع سجوده فهي كحجرة لا يجدي ولوجها في ستر عورته.
ثمَّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه من الإشكال من حيث عدم صدق الستر في ولوج الحفيرة إنَّما يتمّ إذا كان حكم العاري الآمن من المطلع الإيماء.
وأمَّا إذا قلنا: بأنَّه يركع ويسجد، فلا إشكال حينئذٍ، وتكون الرواية المرسلة منزّلة على ولوج الحفرة ليأمن بها عن المطلع، ويركع ويسجد، والله العالم.
(1) هذا هو المعروف بين الأعلام، قال المصنِّف R في الذكرى: «يجب شراء السّاتر بثمن مثله مع المكنة، أو استئجاره ولو زاد عن المثل، وتمكّن منه، فالأقرب: أنّه كالطَّهارة، ولو أُعِير وجب القبول، إذ لا كثيرَ منَّة فيه؛ ولو وُهِب منه: قطع الشيخ بوجوب القبول أيضاً، وهو قويّ، لتمكّنه من السّتر...».
أقول: ما ذكره المصنِّف R في غاية الصحَّة والمتانة، لوجوب تحصيل مقدِّمات الواجب المطلق، ولو استلزم صرف المال الكثير ما لم يبلغ حدّ الإجحاف والإضرار بالحال، فيرتفع حينئذٍ بدليل نفي الحرج والضّرر.
وأمّا لو وُهِب: فيجب عليه القبول، كما عرفت، وضعَّفه العلاَّمة R في التذكرة، معللاً باستلزامه المنَّة.
الظاهر: أنَّ ما استند إليه R في التذكرة قد تبع فيه العامَّة، قال في المنتهى: «أمَّا لو وجد من يهبه الثّوب، قال الشيخ: يجب عليه القبول، خلافاً لبعض الجمهور، وقول الشيخ: جيد، لأنَّه متمكّن فيجب، كما يجب عليه قبول العارية، احتج المخالف بأنّه يلحقة المنّة، وجوابه: العارُ الذي يلحقه بسبب انكشاف عورته أعظم من المنّة» وهذا هو الصحيح، والله العالم.
[i] الوسائل باب 46 من أبواب النجاسات ح4.
|