الدليل الثالث: وهو عمدة ما استدلّ به على التكرار، وحاصله: إنَّ الأمر مثل النهي، فكما أنَّ النهي لا يتحقق إلا بترك كلّ أفراد الطبيعة الطولية والعرضية، فكذلك الأمر لا يتحقق إلا بإتيان أفرادها كذلك.
الجواب: أنَّ النهي يختلف عن الأمر من جهتين:
الأولى: إنَّ الغرض من النهي دفع المفسدة في متعلقه، وبما أنَّ هذه المفسدة متعدّدة وقائمة بكلّ فرد من أفراد المتعلق انحلّ النهي إلى نواهٍ متعدّدة تعلّق كلّ واحد منها بفرد على حدة.
أمّا الأمر، فالغرض منه تحقيق مصلحة في متعلّقه، والعرف يرى أنَّ هذه المصلحة قائمة بصرف وجود الطبيعة؛ بحيث لو قال المولى: (تصدَّق على المسكين)، لكفى التصدق على واحد، إلا إذا كان الأمر محفوفاً بقرينة دالّة على قيام المصلحة بجميع أفراد الطبيعة.
الثانية: إنَّ المكلف قادر على ترك كلّ أفراد طبيعي متعلّق النهي الطولية والعرضية بلا حرج؛ كأن يترك كلّ أفراد الزنا، بينما لا يمكن امتثال كلّ أفراد الأمر؛ كما في قول المولى: (صلِّ الظهر)، فبناءً على القول بالتكرار يلزم الإتيان بجميع أفرادها الطولية والعرضية، وهذا إن لم يكن متعذّراً فهو متعسّر، وكلاهما منفيّان في الشريعة.
وعليه، بعد تبيّن اختلاف النهي عن الأمر، امتنع القياس بينهما من جهة تحقق النهي بترك كلّ أفراد طبيعي متعلّقه الطولية والعرضية، فضلاً عن كون استفادة ذلك في النهي لم يأتِ عن طريق الصيغة، بل عن طريق العقل القاضي بأنّ دفع المفسدة القائمة في متعلّق النهي لا يكون إلا بترك جميع أفراد الطبيعة.
فالإنصاف: أنَّه مع الشك في دلالة الأمر على المرة والتكرار، فإنَّ مقتضى القاعدة هو الاكتفاء بصرف الوجود؛ وذلك عن طريق إدراك العقل أنَّ تحقق الطبيعة بذلك، لا عن طريق صيغة الأمر.
صحة الإتيان بالمأمور به ثانياً:
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «تنبيه: لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال، وأنَّه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانياً، على أن يكون أيضاً به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار، فلا يخلو الحال: إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الإهمال أو الإجمال، فالمرجع هو الأصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنّما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها، فإنَّ لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الإتيان بها مرة أو مراراً، لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى».
حاصل هذه المسألة: إنَّه بناءً على دلالة الأمر على المرة، فلا إشكال في الامتثال الأوّل وسقوط التكليف به، وإنَّما الكلام في الامتثال الثاني وما بعده، فهل يصحّ الإتيان به بقصد أنَّه مأمور به أيضاً؟
والجواب: أنَّه لا يصحّ ذلك؛ للزومه التشريع والامتثال بعد الامتثال، وهو محال بعد فرض سقوط الأمر بالامتثال الأوّل.
وأمّا على المختار من أنَّ الأمر لا يدلّ على المرة ولا التكرار، فلا يخلو الحال: إمّا أن يكون المتكلم في مقام الإهمال أو الإجمال، فالمرجع هو أصالة البراءة. وإمّا أن يكون هناك إطلاق للصيغة في مقام البيان، وهنا لا إشكال في الامتثال بالمرّة الأولى، وإنَّما الكلام في جواز الإتيان ثانياً وثالثاً وهكذا.
قد يقال: إنَّ مقتضى إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها كذلك، ولكن قد يشكل بأنَّه بأيّ عنوان يؤتى بالمرة الثانية وما بعدها والفرض أنَّ التكليف قد سقط بالمرّة الأولى؟! نعم، لا إشكال في استحباب الإتيان بالمرة الثانية بعنوان الاحتياط.
ثمَّ إنَّ صاحب الكفاية ارتاح من هذا الجانب بتفسيره الإطلاق على أنَّ المراد منه الأفراد العرضية لا الطولية، فيكون مقتضاه الإتيان بالأفراد دفعة واحدة في عرض واحد.
وعليه، فلا محذور بالالتزام بالإطلاق ولا يلزم منه الامتثال بعد الامتثال، كلّ ما هنالك أنَّه إذا أتى بأزيَد من فرد دفعة واحدة يمكن أن يقال بوقوع كلّ واحد منها امتثالاً، ويتحقق حينئذٍ عدّة امتثالات دفعة واحدة، كما يمكن القول بوقوع المجموع امتثالاً واحداً، ويمكن أيضاً القول بوقوع فرد منها امتثالاً، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد من التوضيح حول هذه المسألة.
وبالجملة، فلا يكون ذلك من الامتثال بعد الامتثال؛ لأنَّه لمّا حصل الامتثال بالأوّل وحصل الغرض وسقط الأمر، فيكون الإتيان ثانياً بلا أمر.
نعم، هناك صورة واحدة ذكر صاحب الكفاية أنّها من الامتثال بعد الامتثال، فلا إشكال فيها، وهي فيما لو كان للمولى غرض أقصى ولم يتحقّق بعد الامتثال الأوّل، ومع بقاء الغرض يبقى الأمر المصصِّح للامتثال الثاني؛ كما لو قال المولى لعبده: (آتني ماء لأشرب)، فامتثل العبد، إلا أنَّ المولى لم يشرب الماء، وبالتالي لم يحصل الغرض من الأمر، وهو رفع العطش، ولم يسقط الأمر الأوّل، وعليه أمكن أن يأتي العبد بالمأمور به مرّة ثانية بعنوان الامتثال؛ حيث يمكن تبديل الامتثال الأوّل بالثاني.
|