• الموقع : موقع سماحة اية الله الشيخ حسن الرميتي .
        • القسم الرئيسي : بحث الاصول .
              • القسم الفرعي : مبحث الأوامر / بحث الاصول .
                    • الموضوع : الدرس 76 _ المقصد الأول في الاوامر 8 .

الدرس 76 _ المقصد الأول في الاوامر 8

التفويض:

ذهبت المعتزلة إلى أنَّ الله تعالى خلق العباد، وفوّض إليهم خلق أفعالهم مستقلّين عنه، ففعلهم في عرض فعله، وسلطنتهم على أفعالهم في عرض سلطنته تعالى؛ ذلك أنَّ الممكن يحتاج إلى علّة في وجوده لكي يخرج من حيّز الاستواء بين العدم الوجود، فإن وُجِد استغنى عن علّته؛ نظير استغناء البناء عن البنّائين الذين يشكّلون علّة حدوثه الفاعلية؛ بحيث إن مات البنّاؤون بقي البناء. وفيه: أنَّ البناء احتاج في تركّبه إلى فعل البنّائين، فهم علّته الوجودية، أمّا تماسك البناء، فصحيح أنَّه لم يعد يحتاج إلى فعلهم، إلا أنَّه بحاجة إلى علة أخرى، وهي طبيعة مواده وخاصية التماسك فيها؛ والدليل أنَّه لو أصاب هذه المواد ما يفقدها خاصية التماسك من رطوبة ونحوها، لتفكك البناء.

أمّا الإمامية، فقد ذهبوا إلى أنَّ الممكن كما يحتاج إلى علة لحدوثه، فهو يحتاج إلى علة لبقائه؛ لأنَّ الاحتياج إلى علة لازم للإمكان، والإمكان لازم لماهية الممكن، وإلاّ لانقلب الممكن إلى ممتنع أو واجب، والشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه، ولازم اللازم لازم، فيكون الاحتياج إلى علة لازماً لماهية الممكن.

هذا هو الإنصاف في المسألة والذي لا يمكن أن يحيد عنه عاقل مدّعياً أنَّ الإنسان يقوم بأفعاله بمعزل عن القدرة الإلهية؛ بل مرجوع أفعاله من خير أو شرّ إلى القدرة التي يمدّه الله تعالى àها، فلا هو مستقل على نحو التفويض، ولا غير مستقل على نحو الجبر، وإنَّما هو أمر بين أمرين، وهو معنى لا يدركه إلا الأوحدي من الناس، وهو العالِم (عليه السلام) أو من علّمه العالم؛ كما ورد في مرسلة صالح بن سهل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «سئل عن الجبر والقدر فقال: لا جبر ولا قدر ولكن منـزلة بينهما، فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم»([1]).

ومن الروايات الدالة على ذلك: صحيحة يونس بن عبد الرحمن عن أبي جعفر وأبي عبد الله J، قالا: «إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمَّ يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمراً فلا يكون، قال: فسئلا J: هل بين الجبر والقدر منـزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء والأرض»([2]).

وكذا صحيحة يونس، عن عدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «قال له رجل: جعلت فداك، أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمَّ يعذبهم عليها، فقال له: جعلت فداك ففوض الله إلى العباد؟ قال: فقال: لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي، فقال له: جعلت فداك فبينهما منـزلة قال: فقال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض»([3]).

وصحيحة صباح بن عبد الحميد، وهشام، وحفص، وغير واحد، قالوا: «قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): إنا لا نقول جبراً ولا تفويضاً»([4]).

ومرسلة أبي طالب القمي عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت أجبر الله العبـاد على المعاصي؟ قال: لا، قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قال: قال: لا، قال: قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك»([5]).

وأمّا الآيات المباركة مثل قوله تعالى : «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ»([6])، وقوله: «قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ»([7])، وقوله: «وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ»([8])، فكلّها تصبّ في المعنى المتقدِّم من أنَّ القدرة ﷲ تعالى يمدّنا بها، فنوجّهها باختيارنا إلى الخير أو الشر، فلولا هذه القدرة لما حرّكنا ساكناً، ولولا اختيارنا لما نُسِب الفعل إلينا، ولما استحققنا العقاب والثواب.

ولا يخفى أنَّ الآية الشريفة الأخيرة قد استدلّ بها الأشعري على الجبر باعتبار أنَّ كلاًّ من الحسنة والسيئة من الله تعالى؛ فالعبد مجبور على الفعل، ولكن بما ذكرناه يتّضح أنَّ الأمر ليس كذلك، فمعنى كون الحسنات والسيئات من الله تعالى ، هو بلحاظ كونه تعالى من أمدّنا بالقدرة على فعلهما، من هنا صحّت نسبة الفعل إليه، بينما نسب الفعل إلى العبد بلحاظ كونه مختاراً لفعلهما.

نعم، الأوْلى نسبة الحسنات إلى الله، ونسبة السيّئات إلى العبد؛ لقوله تعالى: «مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ»([9]). ويوضحه ما رواه الوشا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: «سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال: الله أعز من ذلك قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك، قـال: ثمَّ قال: قال الله: يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، عملتَ المعاصي بقوتي التي جعلتُها فيك»([10]).

والخلاصة: إنَّ قاعدة الأمر بين الأمرين لا جبر ولا تفويض، وإن كانت من مسلّمات الإمامية، إلا أنَّه لا يمكن أن يتعقّلها إلا الأوحدي من الناس.

ومن هنا قيل: إنَّ ما ذكر في بيان حقيقة الأمر بين الأمرين يرجع إلى الجبر أو التفويض؛ حيث نرى كثيراً من الأعلام لمّا تصدوا لإبطالهما وبيان حقيقة الأمر بين الأمرين، لم يقدروا على التخطّي عن مرتبة التفويض، وإن أنكروه باللسان؛ حيث ذكروا أنَّ منشأ عدم استقلال العبد في أفعاله كونها صادرة منه بواسطة أنَّ الله تعالى ûقدره عليها، والقائل بالتفويض من المعتزلة لا ينكر ذلك؛ فإنَّ كلّ شيء تحت قدرته تعالى، ومنه قدرة العبد، ولا ينكر مسلم ذلك إلا أن يكون أبله، والله العالم بحقائق الأمور.



([1]) الكافي باب الجبر والقدر والأمر بين أمرين ج1، ص159، ح10.

([2]) الكافي باب الجبر والقدر والأمر بين أمرين ج1، ص159، ح9.

([3]) الكافي باب الجبر والقدر والأمر بين أمرين ج1، ص159، ح11.

([4]) أمالي الصدوق، ص353.

([5]) الكافي باب الجبر والقدر والأمر بين أمرين ج1، ص159، ح8.

([6]) سورة الإنسان، الآية: 30.

([7]) سورة الأعراف، الآية: 188.

([8]) سورة النساء، الآية: 78.

([9]) سورة النساء، الآية: 79.

([10]) الكافي باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ج1، ص157، ح3.


  • المصدر : http://www.al-roumayte.com/subject.php?id=2462
  • تاريخ إضافة الموضوع : الإثنين: 11-03-2013
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 12