الأمر الثاني: المراد من حِفْظها هو حفظها من التَّلف أو على ظهر القلب، ومن الحِفظ أيضاً طبعها ونسخها ومذاكرتها، وكلُّ ما له دخل في بقائها في الوجود.
الأمر الثالث: المعروف بين الأعلام حرمة حفظهما.
وقدِ استُدل لذلك بعدَّة أدلَّة:
منها: الإجماع المدَّعى في المنتهى. وفيه: ما عرفت من أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد غير حجَّة، هذا أوَّلاً. وثانياً -مع قطع النَّظر عن ذلك-: فإنَّه ليس إجماعاً تعبديّاً كاشف عن رأي المعصوم (عليه السَّلام)، بل هو مدركيٌّ أو محتمل المدركيَّة، إذ يحتمل أن يكون مستند المجمعِين ما نذكره من الأدلَّة الآتية.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾. [لقمان: 6].
وجه الاستدلال بالآية: أنَّها دلَّت على حرمة اشتراء لهو الحديث. ومن جملة لهو الحديث كتب الضلال، والمراد بالاشتراء مطلق التَّسلُّط على الشَّيء ولو بغير الشِّراء. وعليه، فيكون حفظ كتب الضَّلال داخلاً في حرمة اشتراء لهو الحديث. ولكنَّ الإنصاف: بما أنَّه لا توجد رواية صحيحة تُفسِّر الاشتراء بما ذُكِر. نعم، ذكرنا في حديث الغناء بعض الرِّوايات المعتبرة المفسِّرة للهو الحديث بالغناء، لكن ذكرنا أنَّ هذا من باب المصداق للآية الشَّريفة، لا أنَّها منحصرة به.
وعليه، فنقول: إنْ أُرِيد من الاشتراء معناه الحقيقي فهو يدلُّ على حرمة اشتراء كتب الضَّلال. ولكن لا ملازمة بين حرمة الاشتراء وحرمة الحفظ، كما تقدّم نظيره في مبحث اقتناء الصُّور، حيث أنَّه لا ملازمة بين حرمة التَّصور واقتنائها.
أضف إلى ذلك: أنَّه لو دلَّ على حرمة الحفظ إلَّا أنَّه يدلُّ عليه إذا كان الاشتراء للإضلال، أي أنَّه يحرم الحفظ بقصد ترتُّب الضَّلال عليه، ولا يشمل الحفظ مع العلم بعدم ترتُّب الضَّلال أو احتماله.
وإن لم يكن المراد منه المعنى الحقيقي، فالظَّاهر حينئذٍ كون المراد منه التحدث بحديث اللهو، والله العالم. فيدخل حينئذٍ في حرمة الإضلال عن سبيل الله بسبب التحدُّث بذلك، وهذا لا إشكال في حرمته، ولكنَّه خارج عن محلَّ الكلام.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾. [الحج: 31]. والإنصاف: أنَّ الآية الشَّريفة أجنبيَّة عمَّا نحن فيه، وقد فُسِّرت سابقاً في مبحث الغناء في جملة من الرِّوايات بالغناء. وقد فُسِّرت بغيره، ولا منافاة بين التفسيرَيْن؛ لأنَّهما من باب مصداق الآية الشَّريفة. ومهما يكن، فإنَّ ظاهرها هو حرمة التَّكلُّم بالباطل، وهو أجنبيٌّ عن حِفظ كتب الضَّلال.
ومنها: أنَّ هناك بعض الفقرات من رواية تُحَف العقول[1] تدلًّ على حرمة حِفْظ كتب الضَّلال:
الفقرة الأُولى: قوله (عليه السَّلام): إنَّما حرَّم الله الصِّناعة التي يجيء منها الفساد مَحْضاً. (إلى أن قال): حرم جميع التقلّب فيه.
وجه الاستدلال بها: أنَّ تأليف كتب الضَّلال أو استنساخها من الأمور المحرَّمة؛ لِصدق الصِّناعة المحرَّمة عليهما، وإذا حرمت الصِّناعة حرم جميع التقلُّب فيها، ومنه حفظ كتب الضَّلال. وفيه، أوَّلاً: أنَّ أقصى ما يستفاد منها حرمة تأليف كتب الضَّلال، أو استنساخها، ولا تدلُّ على حرمة الإبقاء، أي الحفظ؛ لِعدم الملازمة. وثانياً: لم يعلم صِدْق التَّقلُّب فيها على الحفظ.
الفقرة الثَّانية: قوله (عليه السَّلام): أو يقوى به الكفر والشِّرك في جميع وجوه المقاصد، أو باب يُوهَن به الحقُّ، فهو حرام محرَّم بيعه وشراؤه وإمساكه. وفيه، أوَّلاً: أنَّ موردها الكفر والشِّرك، ولا تشمل باقي أفراد الضَّلال. وثانياً: مع قطع النَّظر عن ذلك، فهي تدلُّ على حرمة تقوية الكفر والشِّرك. ولكن مجرد حفظ كتب الضَّلال ليس فيه تقوية لهما، إلَّا أن يكون الحِفظ بقصد التَّقوية.
والذي يهوِّن الخطب: أنَّ رواية تُحَف العقول ضعيفة بالإرسال.
ومنها: حسنة عبد الملك بن أعين قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام): إِنِّي قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا الْعِلْمِ، فَأُرِيدُ الْحَاجَةَ، فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى الطَّالِعِ، وَرَأَيْتُ الطَّالِعَ الشَّرَّ جَلَسْتُ، وَلَمْ أَذْهَبْ فِيهَا، وَإِذَا رَأَيْتُ الطَّالِعَ الْخَيْرَ ذَهَبْتُ فِي الْحَاجَةِ، فَقَالَ لِي: تَقْضِي، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَحْرِقْ كُتُبَكَ.[2] بناء على أنَّ الأمر بالإحراق للوجوب، لا للإرشاد. وفيه: أنَّ مقتضى الاستفصال بين القضاء بالنُّجوم بعد النَّظر وعدمه أنَّه لا بأس بالنَّظر إذا لم يقضِ به، بل أُرِيد مجرد التَّفاؤل إنْ فُهِم الخير، والتحذَّر بالصَّدقة إنْ فُهِم الشَّرّ، كما في بعض الرِّوايات التي تأتي -إن شاء الله تعالى-.
والخلاصة: أنَّ التفصيل فيها يدلُّ على جواز الحِفظ، مع عدم الحكم بالنُّجوم.
ومنها: ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: بل ويستفاد أيضاً ممَّا دلَّ على وجوب جهاد أهل الضَّلال، وإضعافهم بكلِّ ما يمكن، ضرورة معلوميَّة كون المراد من ذلك تدمير مذهبهم، بتدمير أهله، فبالأَولى تدمير ما يقتضي قُوَّته. (انتهى كلامه). ولكن يرد عليه: أنَّ مجرد الحِفظ، مع قطع النَّظر عن شيء آخر، لا يقتضي قوَّة مذهبهم.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا يوجد دليل قويّ يدلُّ على حرمة حفظ كتب الضَّلال، والله العالم.
[1] وسائل الشيعة: باب من أبواب2 ما يكتسب به، ح2.
[2] وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب آداب السفر ح1.
|