الصورة الثالثة: وهي صورة العلم بالاختلاف في الفتوى والجهل بالتفاضل، فالمعروف بينهم أنه لا بدّ من الفحص، لما ذكرناه في الصورة الأولى لاشتراكهما في العلم بالاختلاف المانع من العمل بإطلاق أدلة الحجّية، فيكون كل من الفتويين مشكوكة الحجّية قبل الفحص.
ثم أنه إذا فحّص ولم يتمكن من تشخيص الأعلم، فلا بدّ من الاحتياط، كما ذكرناه سابقاً، وإذا لم يتمكن من الاحتياط فيتخيّر كما عرفت سابقاً، وهو من التخيير العقلي في مقام الامتثال.
نعم، إذا ظن أو احتمل أعلمية أحدهما المعيّن فيتعين الأخذ بفتواه للقطع بحجّية فتواه، والشك في حجّية فتوى غيره لما عرفت، ولا حاجة للإعادة.
اللّهم إلّا أن يقال: إن الأصل عدم التفاضل. وبعبارة أخرى: ان المانع من جواز العمل بفتوى الآخر، هو احتمال الأفضلية والأعلمية، فإذا جرى الأصل المزبور فيترتب عليه جواز الأخذ بفتوى غيره، ولا يتعيّن الأخذ بفتوى من احتمل أعلميته وأفضليته، وإذا ثبت هذا الجواز الشرعي فينتهي الأمر إلى التخيير في الأخذ بهما. وفيه: أوّلاً: ان هذا لو تمّ إلا أنّه لا ينفع على ما ذهبنا إليه من عدم ثبوت الحجّية التخييرية بل لا بدّ من الأخذ بأحوط القولين أو الأقوال. وثانياً: مع قطع النظر عن ذلك، فإن أصالة عدم التفاضل لا تجري، لأنّها من الأصل المثبت، إذ يلزم عقلاً من عدم الأفضلية التساوي. ومن المعلوم، ان موضوع التخيير هو التساوي.
الصورة الرابعة: وهي صورة الجهل بهما معاً أي عدم العلم بالتفاضل، وعدم العلم بالاختلاف في الفتوى، وحكمها واضح، وهو عدم وجوب الفحص عن الأعلم لعدم وجوب تقليده، فإن مقتضى إطلاق الأدلّة حجّية فتوى كل من الأعلم وغيره، ولا يعلم باختلاف الفتوى حتى يكون ذلك مانعاً من التمسّك بالإطلاق.
الصورة الخامسة: لا إشكال في العمل على فتوى من يعرفه. وأمّا احتمال وجود مجتهد آخر أو الشك في وجوده، فضلاً عن الشك في كونه أعلم أو الشك في كون فتواه مخالفة، فلا يعتنى به لقيام سيرة المتشرعة على العمل بالفتوى مع الشك في وجود مجتهد آخر من دون فحص عنه.
بقي شيء في المقام لا بدّ من التنبيه عليه، وهو: أن وجوب الفحص في بعض الصور المتقدّمة هو وجوب إرشادي لا مولوي أي إرشاد إلى عدم وقوع المكلّف في معرض احتمال مخالفة الواقع، إذ لولا الفحص لم تحرز حجّية إحدى الفتويين، المترتب على ذلك احتمال العقاب الأخروي.
التنبيه الثالث: هل يجب تقليد الأورع أم لا؟، عندنا صورتان:
الصورة الأوّلى: فيما إذا اختلف الأعلام في الورع مع تساويهم في العلم والفضيلة، فكان أحدهم أورع من الآخرين.
الصورة الثانية: إذا اختلفوا في الورع وفي العلم والفضيلة، كل ذلك مع العلم بالاختلاف في الفتوى.
وقبل الشروع في ذلك، نقول: إن الأورعية:
تارة: تكون في مقام العمل بأن يكون أحد الأعلام مجتنباً عن المشتبهات دون الباقين أو أنه يأتي بالمستحبات من صلاة الليل وصيام الأيام المستحبة والحجّ المستحب والزيارة وصلاة جعفر وغيرها أكثر من غيره.
وأخرى: تكون في مقام الاستنباط بمعنى كون أحدهم حين الاستنباط يفحص عن الدليل أكثر من المقدار المعتبر في الفحص عنه. مثلاً، يكفي في مقدار الفحص في الأخبار مراجعة الوسائل والجواهر والحدائق، فالأورع يفحص أكثر من ذلك، أو أنه يحتاط في المسائل الخلافية أكثر من غيره، ونحو ذلك.
|