*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): فصل: إذا علم المقلّد اختلاف الأحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة، فلا بدّ من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعيّنه، للقطع بحجّيته والشك في حجّية غيره...الخ*
هذه هي المسألة الثانية المشار إليها سابقاً: وهي: مسألة وجوب تقليد الأعلم، وقد اختلف الأعلام في وجوب تقليد الأعلم عند اختلافهم في العلم والفضيلة.
ومن المعلوم: أن الخلاف إنما هو في فرض كون فتوى الأعلم مخالفة لفتوى غيره، وفي فرض أيضاً علم المقلّد باختلافهما في الفتوى، وإلّا ففي فرض توافقهما في الفتوى وعلم المقلّد بذلك فلا دليل على تعيّن الرجوع إلى الأعلم، بل لا ثمرة للنزاع حينئذٍ، لأن العمل بفتوى أحدهما عمل بالآخر أيضاً، ولا تختص الحجّية بواحد معيّن لكونهما من قبيل تعدّد الرواية في حكم المسألة.
وبالجملة، فلا ينبغي التشكيك في حجّية فتوى غير الأعلم في نفسها، وإنما الإشكال في فرض كون فتوى الأعلم مخالفة لفتوى غيره مع علم المقلّد بالمخالفة أيضاً وإلّا ففي فرض عدم العلم بمخالفة الفتويين يمكن إحراز عدم المخالفة بالأصل، نظير عدم المخالفة للكتاب والسنّة بمثله في الشرط ونحوه.
إذا عرفت ذلك، فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأوّل: فيما يستقل به عقل العامي في نفسه أي المكلف الجاهل العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو مقتضى الأدلة في مسألة تقليد الأعلم؟
المقام الثاني: فيما يقتضيه وظيفة المجتهد، وأنه بحسب الأدلة الاجتهادية هل يمكنه الإفتاء بجواز تقليد غير الأعلم أم لا؟
أمّا المقام الأول: فإن استقل عقله بتساوي الأعلم وغيره في الرجوع إليه، لأخذ الفتوى فلا بأس حينئذٍ بالرجوع إلى غير الأعلم، إذ لا يعقل تكليفه بخلاف ما استقل به عقله.
إلا أنه لا يخفى عليك، بأن هذه الصورة -أي صورة استقلال عقله بتساوي الأعلم وغيره- هي مجرّد فرض، لأن احتمال تعيّن الرجوع إلى الأعلم حاصل عنده بمجرّد التفاته إلى ذلك.
ومن هنا، نقول: إنه إذا احتمل تعيّن الرجوع إلى الأعلام فلا بدّ من الرجوع إليه في تعيين هذه الوظيفة، وتوضيحه: أنك قد عرفت سابقاً، أن أصل مسألة التقليد هي اجتهادية وليست تقليدية، ولكن ذكرنا أن قضية الارتكاز الفطري هو دليل لبّي لا إطلاق فيه فهو مجمل من حيث الخصوصيات المحتملة دخلها شرعاً في موضوع الحجّية، فلا يمكن أن يستكشف من الارتكاز الفطري هذه الخصوصيات، كالأعلمية والحياة والذكورة والحرية ونحو ذلك لا نفياً ولا إثباتاً. وعليه، فيستقل عقله بالرجوع إلى من هو جامع لجميع ما احتمل دخله في المرجع من الصفات، فيجب عليه في هذه المسألة الرجوع إلى الأعلم، وذلك للأصل العقلي عند الدوران بين التعيين والتخيير، حيث يعلم بجواز الرجوع إلى الأفضل ويشك في حجّية فتوى المفضول وهو يساوي القطع بعدمها فعلاً.
وبعبارة أخرى: يدور الأمر بين أن تكون فتوى كل من الأعلم وغيره حجّة تخييرية وبين أن تكون فتوى الأعلم حجّة تعيينية. فهنا حينئذٍ يعلم بجواز تقليد الأعلم على كل حال -أي سواء قلنا بالتخيير بينهما أم بالتعيين- وأمّا فتوى غير الأعلم، فإن قلنا بالتخيير فيجوز الرجوع إليه، وإن قلنا بالتعيين ففتواه حينئذٍ مشكوكة الاعتبار ومشكوكة الحجّية ولا مؤمن من احتمال العقاب الأخروي. ومن المعلوم، أن الشك في الحجّية إنشاءً يساوق القطع بعدمها فعلاً.
والخلاصة: أنه يجب الرجوع في هذه المسألة إلى الأعلم، وليس له الرجوع إلى غير الأعلم في جواز تقليد غير الأعلم، لإنه مستلزم للدور، إذ الرجوع متوقف على جواز تقليد غير الأعلم فلو كان جواز تقليد غير الأعلم مستنداً إلى الرجوع إليه للزم الدور. نعم، لا بأس بالرجوع إليه في سائر المسائل الفرعية، إذا أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم فصّح تقليده إياه في المسائل الفرعية حينئذٍ بمقتضى فتوى الأعلم بجوازه. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما المقام الثاني: وهو المجتهد القادر على الاستنباط في مسألة تقليد الأعلم وغيرها من المسائل، فهل مقتضى الأدلة عند المجتهد وجوب تقليد الأعلم على العامي أو يجوز تقليد غيره؟
وقد اختلف الأعلام في ذلك، والظاهر أن الخلاف كما يظهر من تصريح جماعة من الأعلام إنما هو في فرض كون فتوى الأعلم مخالفة لفتوى غيره مع علم المقلّد باختلافهما في الفتوى أيضاً.
إذا عرفت ذلك، فنقول إن هناك قولين في المسألة:
القول الأول-وهو المشهور بين الأعلام-: وجوب تقليد الأعلم.
وعن المحقق الثاني: «الإجماع عليه». (انتهى كلامه).
وفي المعالم: «هو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم». (انتهى كلامه).
ويظهر من السيد في الذريعة: كونه من مسلّمات الشيعة.
القول الثاني: جواز الرجوع إلى غير الأعلم.
ذهب إليه جملة من الأعلام، منهم صاحبا القوانين والفصول.
وقد حكي عن المحقق القمّي أنه قال - بعد منعه أقربية قول الأعلم-: «فحينئذٍ فالقول بوجوب تقديم قول الأعلم للمقلّد على الإطلاق لا يتمّ ودعوى الإجماع في أمثال هذه المسائل مع أنها غير ظاهرة منهم وغير واضحة في نفسها يظهر بطلانها من استنادهم في دعواهم هذه إلى أنه أقرب وآكد وأرجح ...الخ». (انتهى كلامه).
وأمّا صاحب الفصول، فقد حكي عنه أنه قال -بعد المناقشة في أدلّة وجوب تقليد الأعلم-: «فالقول بالجواز إذن أوضح وإن كان المنع أحوط...الخ». (انتهى كلامه).
|