الأمر العاشر: في نفوذ قضائه.
وقد اختلف الأعلام: في ذلك أيضاً.
فعن جماعة منهم: عدم نفوذ قضائه، منهم الشهيد الثاني في المسالك.
والأكثر: على جواز تصدّيه للقضاء، وفصل الخصومة.
والإنصاف: هو ما ذهب إليه الأكثر من نفوذ قضائه فيما لو كان مستنبطاً جملة وافية من الأحكام بحيث يصدق عليه عنوان: «العالم» و «الفقيه» و «العارف بالحلال والحرام»، فتشمله حينئذ صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، قال: «قال أبو عبد الله (عليه السّلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه». فإن ظاهر هذه الصحيحة كفاية معرفته بمقدار معتدّ به من الأحكام في جواز تصدّيه للقضاء، ولا يشترط معرفته بكل الأحكام أو جلّها، لأن لفظة «من» في قوله (عليه السّلام): «يعلم شيئاً من قضايانا» للتبعيض، وليست بيانية حتى يلزمها معرفته بجميع الأحكام وإلّا كان المناسب في التعبير أن يقول: «يعلم أشياءً من قضايانا» لا شيئاً.
إن قلت: إنه ورد في مقبولة ابن حنظلة: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً...الحديث» حيث يستفاد منها معرفة المتصدّي للقضاء لجميع الأحكام باعتبار أن الجمع المضاف يفيد العموم، فلا يكفي معرفته بجملة من الأحكام المعتدّ بها. قلت: أوّلاً: ان الرواية وان تلقاها الأصحاب بالقبول إلّا أنها ضعيفة بعدم وثاقة ابن حنظلة.
وثانياً: مع قطع النظر عن ضعف السند، ومع قطع النظر عن إفادة الجمع المضاف للعموم، فغاية ما يستفاد منها الرخصة في التصدّي للقضاء للمجتهد المطلق العارف بجميع الأحكام، وأما نفي الرخصة للقضاء عن غيره ممّن هو عارف بجملة وافية من الأحكام فلا مفهوم لها، وعليه فلا منافاة بين المقبولة وصحيحة أبي خديجة المتقدمة، والله العالم.
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة بالرجوع إلى ما دوّن فيه ومعرفة التفسير كذلك وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول ضرورة أنه ما من مسألة إلّا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الأصول أو بُرهن عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية كما هو طريقة الأخباري*
المعروف بين الأعلام: أن تحقق الاجتهاد يتوقف على جملة من العلوم، لا بدّ من تحصيلها وأخذ الرأي فيها وإلّا لا يكون الإنسان مجتهداً.
واختلفت كلمة الأعلام في مقدار هذه العلوم:
فمنها: العلوم العربية، والمراد منها هي اللغة والنحو والصرف.
قال صاحب الفصول في اعتبار هذه العلوم الثلاثة: «لأن من جملة الأدلة الكتاب والسنّة وهما عربيان لا يمكن معرفة معانيهما إلّا بالعلوم المذكورة فلا بدّ من الاطلاع عليها قدر ما يتوقف معرفة مواضع الحاجة منهما عليه». (انتهى كلامه).
أقول:
لا يخفى توقف الاجتهاد على معرفة علم اللغة، ولكن بالمقدار الذي يحتاج إليه، ولا يشترط التوسعة في ذلك، ويكفي في معرفة ما يحتاج إليه الرجوع إلى ما دوّن فيه هذا العلم، ولا يشترط حفظ معاني اللغة، فإذا أراد أن يعرف معنى الصعيد والكعب واليد والغناء ونحوها فيرجع إلى الكتب المعدّة لذلك.
وأما توقف الإجهاد على علم النحو فواضح أيضاً، فلا بدّ مثلاً، من معرفة أحكام الفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والحال والتمييز ونحوها، ممّا يوجب اختلاف حركة الكلمة فيها اختلاف معانيها، وكذا معرفة حروف العطف وأنها تفيد الترتيب أم لا. فمثلاً ورد في صحيحة زرارة، قلت: «كيف يغتسل الجنب...». إلى أن قال: «ثم صبّ على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» فإن قلنا بأن الواو تفيد الترتيب فيعتبر حينئذٍ أن يكون غسل الجانب الأيسر بعد الأيمن، وان قلنا بإن الواو لا تفيد الترتيب، كما هو الصحيح، فيكون حينئذٍ مخيراً في تقديم أيّهما شاء، وهكذا.
نعم، لا يلزم التوسعة في علم النحو، إذ أن هناك جملة من مسائله لا دخل لها في الاجتهاد كمعرفة الفرق بين عطف البيان والبدل والمسألة الزنبورية المشهورة وهي قولك: «كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها».
وأما علم الصرف فيحتاج إليه أيضاً في معرفة الهيئات المختلفة الطارئة على المادة وتصاريفها المفضية للاختلاف المعنى.
نعم، لا يجب التوسعة فيه بل يقتصر على المقدار الذي يحتاجه، ولا يشترط في علم النحو وكذا علم الصرف حفظ مسائلهما عن ظهر قلب، كحفظ ألفية ابن مالك في النحو -وان كان حفظها حسناً مستحسناً- بل يكفيه الرجوع عند الاحتياج إلى معرفة مسائلهما إلى الكتب المعدّة لذلك.
ثم اعلم، أنه لا بدّ أن يكون له رأي في علم اللغة والنحو والصرف، ولا يكفي التقليد في هذه العلوم.
|