*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): فصل: الاجتهاد لغة تحمّل المشقة واصطلاحا كما عن الحاجبي والعلّامة استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي*
الاجتهاد لغة: من الجَهد بفتح الجيم بمعنى تحمّل المشقة، ومن الجُهد بالضّم بمعنى بذل الوسع والطاقة، وقيل إنه بالفتح والضّم بمعنى المشقة.
قال في لسان العرب: «الجِهد والجُهد الطاقة. وقيل الجَهد المشقة، والجُهد الطاقة». (انتهى كلامه).
ثمّ حكي عن ابن الأثير: «أنه قد تكرر لفظ الجَهد والجُهد في الحديث وهو بالفتح المشقة وقيل المبالغة والغاية وبالضم الوسع والطاقة. وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة. فأمّا في المشقة والغاية فالفتح لا غير». (انتهى كلامه).
وأمّا اصطلاحاً: فقد اختلفت عبارات الأعلام في تعريفه.
ولا يخفى عليك: ان الأصل في تعريف الاجتهاد هم العامّة وتبعهم علماء الإمامية على ذلك، وإلّا من المعلوم ان عنوان المجتهد لم يرد في آية شريفة ولا رواية موضوعاً لحكم من الأحكام حتى يتنازع في تعريف الاجتهاد، وإنما الموضوع للآثار الفقهية «عنوان الفقيه» و«الناظر في حلالهم وحرامهم» و«العارف بأحكامهم» كما في رواية ابن حنظلة المتقدمة.
ومهما يكن، فقد قال المحقق الحلّي (رحمه الله) في معارج الاصول: «وهو في عرف الفقهاء: بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام من أدلة الشرع اجتهادا، لأنها تبتنى على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، وسواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فان قيل: يلزم على هذا أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد.
قلنا: الامر كذلك، لكن فيه ايهام من حيث أن القياس من جملة الاجتهاد، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها». (انتهى كلامه).
وعرّفه العلّامة في كتابه نهاية الوصول، بقوله: «وأمّا في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعية بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير». ثم قال: «وإنما قلنا في طلب الظنّ ليخرج الأحكام القطعية وقولنا بشيء من الأحكام الشرعية ليخرج الاجتهاد في الأمور العقلية وقولنا بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير ليخرج اجتهاد المقصّر مع إمكان المزيد عليه فإنه لا يعدّ اجتهادا معتبراً». (انتهى كلامه).
وحكي عن الشيخ البهائي تعريفه: «بأنه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي». (انتهى كلامه).
وحكي عن بعض الأعلام تعريفه: «بأنه حالة أو قوّة قدسية إلهية». (انتهى كلامه).
إلى غير ذلك من التعاريف.
وقد أشكل على تعريف العلّامة: بعدم الانعكاس -أي أنه غير جامع- تارة، وبعدم الاطِّراد -أي غير مانع من دخول الأغيار- تارة أخرى.
أما أنه غير جامع: فباعتبار ان استنباط الحكم من الأصل العملي -كالاستصحاب والبراءة- اجتهاد، مع أنه لا يحصل من الأصل العملي ظنّ بالحكم الشرعي فلا يشمل الحدّ جميع أفراد المحدود.
وأيضّاً، فهذا التعريف يختص بما إذا أدّى الاجتهاد إلى الظنّ بالحكم الشرعي وعدم شموله لموارد أدائه إلى القطع به، كموارد الإستلزامات العقلية مع صدق الاجتهاد عليه قطعاً، هذا بالنسبة للإشكال عليه بكونه غير جامع.
وأمّا أنه غير مانع: فلأنّ استفراغ الوسع في طلب الظنّ بالأحكام الأصولية كحجّية خبر الثقة والاستصحاب وغيرهما، يندرج في التعريف مع أنه ليس ذلك الاجتهاد المعهود عرفاً، إذ المقصود تعريف الاجتهاد في علم الفقه أي الحكم الفرعي لا مطلق ما يؤخذ من الشارع المقدس، وكذا الحال في باقي التعاريف فإنها غير سالمة من الإشكالات.
والجواب عن ذلك هو ما ذكره صاحب الكفاية، وذكرناه في أكثر من مناسبة، وحاصله: ان هذه التعاريف تعاريف لفظية أي المراد منها بيان شيء حول المعرَّف من قبيل قولك: «السّعدانة نبت»، وليست تعاريف حقيقية يراد منها بيان حقيقة المعرَّف بالحدّ أو الرسم حتى يشكل عليها بأنها غير جامعة أو غير مانعة، وذلك لِما هو المعلوم من عدم الإحاطة بكُنْه الأشياء وخواصّها إلّا لعلّام الغيوب فإنه -سبحانه وتعالى- هو الذي يعلم حقيقية الأشياء وخواصّها، وأمّا البشر فإنهم عاجزون.
والخلاصة: ان عبارات الأعلام في تعريف الاجتهاد ليس لأجل اختلافهم في حقيقته، بل هو عند الجميع بمعنى واحد وهو استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي الفرعي، وعليه: فاختلاف تعبيرات الأعلام إنما هو لمجرّد الإشارة إليه بوجه ما.
ومن هنا تعرف الوجه في تعريفه: «باستفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي»، وهو: لأجل ملازمة إعمال القواعد في مقام الاستنباط لإتعاب النفس وتحّمل المشقة، كما أن اشتماله على المشقة هو الموجب لصحّة إطلاق معناه اللغوي عليه.
وأمّا الوجه في تعريفه بالملكة فهو: لأجل ان استخراج الأحكام والوظائف العملية من أدلتها لا يكون إلا عن قوّة راسخة في النفس موجبة لتنقيح القواعد النظرية وإعمالها في مواردها.
كما أن الوجه في تعريفه بالقوة القدسية: هو كونها من المواهب الإلهيّة، وأنها نور يقذفه الله في قلب من يشاء.
وممّا ذكرنا تعرف: أنه لا وجه لما ذكره العلّامة وغيره من تعريف الاجتهاد بأنه: «استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الاحكام الشرعية» وذلك لعدم الاعتبار بالظنّ بالحكم الشرعي، إذ لا يجوز العمل على طبق الظنّ لأنه لا يغني من الحق شيئاً، إلّا إذا كان ذلك من الظنون الخاصة المعتبرة.
ولعل هذا -أي تعريف العلامة وغيره-: هو السبب في استيحاش الأخباري من الاجتهاد، حيث حرّموه ونفوه شرعاً. قال المحقق القمّي (رحمه الله) في القوانين: «ثم ان الأخباربين أنكروا الاكتفاء بالظنّ وحرّموا العمل عليه ونفوا الاجتهاد والإفتاء والتقليد ظناً منهم بأن باب العلم غير منسّد بدعوى ان اخبارنا قطعية فيحرم العمل بالظنّ ويجب متابعة الأخبار ويحرم التقليد بل يجب على كل أحد متابعة كلام المعصومين عليهم السلام...» ثم قال: «وهذا كلام لا يفهمه غيرهم». (انتهى كلامه).
|