ويشير إلى ما ذكرنا ببعض الرِّوايات:
منها: رواية عياض عن أبي عبد الله -في حديث-: «ومَنْ أحبَّ بقاء الظَّالمين فقد أحبَّ أنْ يعصي الله».[1] وهي ضعيفة بجهالة بعض الأشخاص.
ثمَّ إنَّه لو سلَّمنا دلالة الأدلَّة المتقدِّمة على حرمة إعانتهم في الأمر المباح، إلَّا أنَّ السِّيرة القطعية على خلاف ذلك.
وعليه، فالمتَّجه في الجميع بين الرِّوايات هو تخصيص الحرمة بثلاثة أمور: الأوَّل: إعانتهم في ظلمهم. الثاني: كون الشَّخص من أعوانهم. الثالث: أن تكون إعانته لهم فيها تقوية لسلطنتهم، وتعظيم شوكتهم.
ومن هنا، يفهم المراد من الآية الشَّريفة: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ...﴾. وأمَّا ما عدا ذلك من خياطة ثوب، أو بناء جدار، أو نحو ذلك، ممَّا هو مباح في نفسه، فالظَّاهر جوازه، وإنْ كان لا يخلو من كراهة، فإنَّ إليهم مطلقاً مظنَّة الهلاك.
ثمَّ إنَّ المراد بالظَّالم هو الظَّالم لغيره، ولا يشمل الظَّالم لنفسه، كما أنَّ اختصاص بعض الرِّوايات بالظَّالمين من خلفاء الجور لا يخصِّص غيرها من الرِّوايات المطلقة والعامَّة.
وأمَّا مَنْ كان ظالماً، ثمَّ تاب عن ذنبه، واستغفر ربه حقيقةً، بأنْ كانت توبته توبة نصوحاً، لا مجرد لقلقلة لسان، فهو حينئذٍ كمَنْ لا ذنب له. ومن هنا، ثبت إعانة النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمَّة (عليهم السّلام) لمَنْ سبق كُفْرُه، وظُلْمُه بعد رجوعه عن ذلك. وبالجملة، فمثله خارج عن مطلقات النَّهي عن إعانة الظَّالم، والله العالم بحقائق أحكامه.
*قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والغيبة*
من جملة ما حرم لعينه، وهو المعبَّر عنه بالمحرَّم في نفسه: الغِيبة.
ويقع الكلام فيها في عدَّة أمور:
الامر الأوَّل: في معنى الغِيبة.
وقدِ اختلفت كلمات الأعلام في تفسير معنى الغِيبة، كما اختلفت كلمات اللُغويين تعريفها:
ففي مصباح المنير للفيُّومِي اغتابه: إذا ذكره بما يكره من العيوب، وهو حقّ، والاسم: الغِيبة، يقصد أنَّ الغِيبة اسم مصدر.
وفي القاموس: عابه وذكره بما فيه من السُّوء.
وعن النِّهاية الأثيريَّة: أنْ يُذكَر الإنسان في غيبته بسوء، ممَّا يكون فيه.
وفي الصِّحاح ومجمع البحرين أنْ يُتكلم خَلْفَ إنسانٍ مستورٍ بما يغمُّه لو سمعه.
وأمَّا كلام الأعلام في تفسيرها:
فعن جامع المقاصد للمحقق الكركي (رحمه الله) أنَّ حدَّ الغِيبة -على ما في الأخبار-: أنْ يقول في أخيه ما يكرهه لو سمعه ممَّا فيه.
وقال الشَّهيد الثاني (رحمه الله) في كشف الرَّيْبة: أن الغِيبة ذِكْر الانسان في غيبته بما يكره نسبته إليه، ممَّا يُعدّ نقصاً في العرف بقصد الانتقاص والذمِّ.
والمشهور بين الأعلام أنَّ الغِيبة هو ذِكْر الغير بما يكرهه لو سمعه.
أقول: بما أنَّ أقوال العلماء واللُغويين مختلفة في تفسير معنى الغِيبة، فلا بدَّ من الرُّجوع إلى الأخبار لكي يتضح من خلالها معنى الغِيبة. وإذا لم يتضح منها حقيقة الغِيبة، فلا بدَّ حينئذٍ من الأخذ بالقَدْر المتيقَّن، ويرجع في الباقي إلى البراءة.
أمَّا الأخبار فهي كثيرة:
منها: رواية عبد الرَّحمان بن سيَّابة قال: «سمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام) يَقُولُ: الغِيبة: أَنْ تَقُولَ فِي أَخِيكَ مَا سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ الظَّاهِرُ فِيهِ مِثْلُ الْحِدَّةِ وَالْعَجَلَةِ، فَلَا؛ وَالْبُهْتَانُ: أَنْ تَقُولَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ».[2] وهي ضعيفة بعدم وثاقة عبد الرَّحمان بن سيَّابة، وأمَّا الرِّوايات الواردة في اعتماد الإمام الصَّادق (عليه السلام) عليه في تقسيم الأموال على مَنْ خرج مع زيد، فلا تفيد شيئاً؛ لأنَّه هو راويها، كما أنَّ وجوده في كامل الزِّيارات لا يفيد؛ لأنَّه ليس من مشايخ ابن قولويه (رحمه الله) المباشرين.
ومنها: رواية داود بن سرحان قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام) عَنِ الغِيبة، قَالَ: هُوَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ وَتَبُثَّ (وثبت) عَلَيْهِ أَمْراً، قَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِيهِ حَدٌّ».[3] وهي ضعيفة أيضاً لعدم وثاقة معلى بن محمد.
ومنها: رواية أَبَانٍ، عَنْ رَجُلٍ لَا نَعْلَمُهُ إِلاَّ يَحْيَى الْأَزْرَقَ قَالَ: «قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ): مَنْ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ خَلْفِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ، لَمْ يَغْتَبْهُ؛ وَمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ خَلْفِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، اغْتَابَهُ؛ وَمَنْ ذَكَرَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، فَقَدْ بَهَتَهُ».[4] وهي ضعيفة أيضاً بجهالة يحيى الأزرق.
[1] وسائل الشيعة: باب 44 من أبواب ما يكتسب به، ح5.
[2] وسائل الشيعة: باب 154 من أبواب أحكام العِشرة، ح2.
[3] وسائل الشيعة: باب 154 من أبواب أحكام العِشرة، ح1.
[4] وسائل الشيعة: باب 154 من أبواب أحكام العِشرة، ح3.
|