لا زال الكلام في الفرق بين الأصول العملية والأمارات من حيث اعتبار مثبتات الأمارة دون الأصل العملي، وكان الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) في الوجه للتفرقة بينهما، وكنا قد ذكرنا ما قد أُشكل عليه.
ولكن الأنصاف: ان هذا الإشكال لم يكتب له التوفيق. وذلك لأن هذا الإشكال، إنما يتم في الحكاية التصديقية الموجبة للإذعان بكون المؤدى مراداً للمتكلم لا مطلقاً حتى بالنسبة إلى الحكاية التصورية. وعليه، فبعد إحراز الحكاية التصديقية بالنسبة إلى المؤدى والمدلول المطابقي يكفي في صحة الأخذ بلوازمه مجرّد حكاية الخبر عنها ولو تصورية، التي تجتمع مع القطع بعدم التفات المخبر إليها، ولأجل ذلك ترى بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم وفي باب الإقرار وغيره على الأخذ بلوازم الكلام الصادر من الغير وإلزامهم إياه بما يقتضيه كلامه من اللوازم حتى مع قطعهم بعدم التفات المخبر إلى تلك اللوازم وغفلته عنها.
ثم أنه لو سلّم اعتبار الحكاية التصديقية حتى بالنسبة إلى لوازم المؤدى، فالأنصاف أنه يكفي في تلك الحكاية مجرّد التفات المخبر إلى لوازم المؤدى ولو بنحو الإجمال، بأنّ لكلامه لازم وملزوم ولا يحتاج إلى الالتفات التفصيلي بالنسبة إليها.
والخلاصة: ان ما ذهب إليه صاحب الكفاية (رحمه الله)، ومن تبعه من الأعلام من التفرقة بين حجّية مثبتات الأمارة دون الأصول العملية هو الصحيح، والله العالم.
ثم اعلم أنه استثنى جماعة من الأعلام منهم الشيخ الأنصاري (رحمه الله) من عدم حجّية الأصل المثبت في الأصل العملي ما إذا كانت الواسطة خفية بحيث يُعد الأثر عند العرف أثراً لذي الواسطة -أي المستصحب- وان كان في الواقع هو أثر للواسطة.
قال الشيخ الانصاري (رحمه الله): «نعم هنا شيء وهو أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي هو من الوسائط الخفية بحيث يُعد في العرف الأحكام الشرعية المترتبة عليها أحكاماً لنفس المستصحب. وهذا المعنى يختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف منها ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر، فإنه لا يبعد الحكم بنجاسته يعني الحكم بنجاسة الآخر الجاف مع أن تنجسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطباً بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره بها بحيث توجد في الثوب رطوبة متنجسة» (انتهى كلامه).
وقد ذكر لذلك عدّة أمثلة سوف نناقشها مع هذا المثال الذي ذكره ان شاء الله تعالى في الفروع التي توهم ابتنائها على حجّية الأصل المثبت والآتية بعد هذه المسألة.
والانصاف أن يقال في الرّد على ما ذهب إليه الشيخ وجماعة من الأعلام: أنه لا أثر لخفاء الواسطة:
فأنه ان كان الأثر أثراً لدى الواسطة حقيقة: فهو خارج عن محل الكلام، إذ لم يتخلل حقيقة بين مؤدى الأصل والأثر الشرعي واسطة عقلية أو عادية فلا معنى لاستثناء الواسطة الخفية.
وأمّا ان كان الأثر أثراً للواسطة حقيقة، ولكن العرف يتسامح ويعّده من آثار ذي الواسطة. فالجواب عنه: انه لا عبرة بالمسامحات العرفية، فإن نظر العرف إنما يكون متَّبعاً في تحديد المفاهيم لا في تطبيقها على المصاديق. مثلاً المسافة الشرعية التي توجب التقصير في الصلاة هي ثمانية فراسخ، ولكن العرف يتسامح ويطلقها على الأقل من ذلك بقليل. ومن المعلوم، أنه لا يعتدّ شرعاً بتسامحه، وكذا غيره من الأمثلة الكثيرة.
والخلاصة: أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية في شتى من الموارد، فإن كان الحكم الشرعي مترتباً على نفس الواسطة حقيقة وكانت هي الموضوع له واقعاً، فلا يمكن إثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة وان فرض أن العرف يتسامح ويرى الموضوع للحكم هو نفس مؤدى الأصل لخفاء الواسطة. وان كان الحكم الشرعي مترتباً في الواقع على ذي الواسطة وكانت الواسطة العقلية أو العادية علّة لثبوت الحكم لمؤدى الأصل، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت.
وأجاب عن ذلك صاحب الكفاية (رحمه الله) في الحاشية: بأنه نمنع ان تكون المسألة هنا من باب المسامحات العرفية في التطبيق بل هي راجعة إلى تحديد المفهوم. وحاصله: ان ما ذكر من الإشكال إنما يتم لو فرض كون المستفاد من الدليل كون التنزيل بلحاظ الأثر بلا واسطة حقيقية. أمّا لو كان المستفاد منه كون التنزيل بلحاظ الأثر بلا واسطة عرفاً، فلا يكون خطأ في التطبيق أصلاً بل هو تشخيص للمفهوم من الدليل. وتوضيح ذلك: ان قوله (عليه السّلام): «لا تنقض اليقين بالشك» بعد أن كان مسوقاً بالنسبة إلى ما كان نقضاً له بالنظر العرفي لا بحسب الحقيقة والدقة، فلا محالة تصير المسامحة العرفية مرجعاً في تحديد مفهوم حرمة النقض والتعبّد ببقاء المتيقن، لا في تطبيق الكبرى المستفادة من «لا تنقض» على المورد، فإذا كان الأثر من جهة خفاء الواسطة ممّا يُعد كونه بنظر العرف أثراً للمستصحب لا للواسطة وان كان أثراً لها بحسب الدقة والحقيقة، فلا بدّ من ترتبه عليه بمقتضى حرمة النقض المسوقة بالنسبة إلى ما يُعد كونه نقضاً بالنظر العرفي. ويرد عليه: ان المستفاد من قوله (عليه السّلام): «لا تنقض اليقين بالشك» ليس إلّا تنزيل المشكوك منزلة المتيقن في مقام العمل. ومن المعلوم ان المصحح للتنزيل المذكور هو جعل الأحكام للمتيقن بلا واسطة أو بواسطة شرعية كما ذكرنا سابقاً فيما لو كان له أثار شرعية طولية. وعليه: فهذا هو المستفاد من دليل التنزيل. أمّا تشخص ان هذا من أحكام المتيقن أو من أحكام غيره فليس ممّا يرجع فيه إلى العرف، لأنه من التطبيق الذي لا يكون من وظائفه. والله العالم.
أما الصورتين اللتين أضافهما صاحب الكفاية (رحمه الله)، فيأتي الكلام فيهما في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
|