ومن جملة الإشكالات على استصحاب الكلّي من القسم الثاني: هو أنّ الكلّي الطبيعي لا وجود له في الخارج حتّى يتعلّق العلم بوجوده ويترتب عليه الأثر، إذ الكلّي الطبيعي منتزعٌ عن الفرد، والموجود في الخارج هو الأفراد التي يترتب عليها الأثر وهي المنشأ لانتزاع الكلّي، وعليه: فالكلّي بما هو كلّي لا يجري الاستصحاب فيه.
وفيه: أنّ هذا الإشكال غير واردٍ أصلاً، لِما ذكرناه سابقاً أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج بوجود أفراده وليس منتزعاً منها، وبعبارة أخرى أنّ الكلّي الطبيعي من العناوين الذاتية وليس من العناوين الانتزاعية، وعليه: فيجري فيه الاستصحاب كما يجري في الأفراد.
نعم إذا لوحظ الكلّي مجرداً عن التشخيصات الخارجية الفردية ففي هذه الحالة لا وجود إلا الذهن فهو موطنه وحينئذٍ يكون من الكلّي المنطقي ولا يجري فيه الاستصحاب، ولكن ما نحن فيه: من الكلّي الطبيعي -وهو قسيم للكلّي المنطقي- فلا إشكال أصلاً.
ومن جملة الإشكالات على استصحاب الكلّي من القسم الثاني: هو أنّ وجود الكلّي لَمّا كان بوجود أفراده كان عدمه بعدم تمام الأفراد فإذا علم بعدم كلّ فرد للكلي غير الفرد الطويل العمر فبضميمة أصالة عدم الفرد المذكور يثبت عدم تمام الأفراد فيثبت عدم الكلي فيكون موضوع الأثر قد أحرز بعضه بالوجدان -وهو عدم الفرد القصير- وبعضه بالأصل -وهو عدم الفرد الطويل-، وعليه: فيكون استصحاب وجود الكلّي معارضاً باستصحاب عدم الكلّي.
وتوضيحه: أنّ وجود الطبيعي يتحقق بأول الوجود -أي بصرف الوجود- وعدمه يكون بانعدام جميع الأفراد بنحو يكون لهذا العدم مراتب متفاوتة بحسب قلة الأفراد وكثرتها، وعليه: فبعد أن كان لعدم الطبيعي مراتب متفاوتة حسب تكثّر الأفراد وقلتها، فإذا شكّ في تحقق مرتبة منه مع العلم ببقية المراتب يكون كالمركب المحرَز بعضه بالأصل وبعضه بالوجدان، فيجري فيه أصل العدم بالإضافة إلى المرتبة المشكوكة، وبضميمة الجزم بانتفاء الفرد القصير يثبت عدم الكلّي في قبال استصحاب بقاء الكلّي.
وعليه: فالمقصود من عدم الطبيعي هو العدم الملّفق من الارتفاع ببعض المراتب ومن عدم الحدوث ببعض المراتب الاخر، وبمثل هذين العدمين يثبت عدم الطبيعي الذي هو نقيض الكلّي، فيترتب عليه نقيض الأثر المترتب على وجود الكلّي، وبعد عدم امكان الجمع بين التَعَبّدين في طرفي النقيض يقع بينها التعارض فيتساقطان.
ولكن الإنصاف: أنّ وجود الطبيعي الذي يكون بأوّل الوجود -أي بصرف الوجود- يكون نقيضه هو عدم الخاصّ لا مطلق العدم، فإنّ نقيض كلّ شيءٍ رفعه، فإذا كان صرف الوجود عبارة عن الوجود الخاصّ -أي أوّل وجود الماهية- فنقيضه ليس إلا رفع هذا المعنى، ولا يكون ذلك إلا العدم الخاصّ الملازم لعدم الأفراد لا عينها، نعم مطلق الوجود نقيضه هو العدم المطلق. والمراد بمطلق الوجود ما له قابلية الانطباق عرضياً على كلّ واحدٍ من وجود الأفراد المتعاقبة كالطبيعة السارية. والمراد من صِرف الوجود كما عرفت هو الذي ليس له قابلية الانطباق إلّا على أوّل وجود الطبيعي لا ثانيه.
والخلاصة: أنّ عدم الطبيعي ليس عين عدم جميع الأفراد، بل عدم الطبيعي ملازمٌ لعدم جميع الأفراد، وحينئذٍ فإذا كان الأثر الشرعي مترتباً على صِرف الوجود كالمانعية من الدخول في الصلاة وعدم جواز مسّ كتابة القرآن المجيد -في مثال الحدث- يكون نقيض الأثر مترتباً على نقيض صِرف الوجود الذي هو العدم الخاصّ، ومثله ممّا لا يمكن إثباته بأصالة عدم حدوث الفرد الطويل بضميمة الجزم بزوال الفرد القصير حتّى يكون حكمه حكم المركّب المحرَز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل.
والسرّ في ذلك: هو أنّ إثبات عدم الطبيعي -أي العدم الخاصّ- بإثبات عدم الأفراد بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل يكون من الأصل المثبِت، لِما عرفت أنّ العدم الخاصّ ملازمٌ لعدم جميع الأفراد وليس عينها، وعليه فيبقى استصحاب بقاء الكلّي بلا معارض.
وبعبارة أخرى: إنّ ما يمكن إثباته من ضمّ الوجدان إلى الأصل إنما هو العدم المطلق الذي له مراتب، وهو من جهة عدم كونه نقيضاً لصِرف الوجود لا يكون موضوعاً للأثر الشرعي. وما يكون موضوعاً للأثر الشرعي وهو العدم الخاصّ الذي هو نقيض صِرف الوجود لا يمكن إثباته بأصالة عدم حدوث الفرد الطويل بضميمة الجزم بارتفاع الفرد القصير لكونه من الأصل المثبِت، وعليه فتجري أصالة بقاء الكلّي حينئذٍ بلا معارض. والله العالِم.
بقي شيء في المقام: وهو أنّ جريان الاستصحاب في القسم الثاني إنما هو فيما إذا لم يوجد شيء يعيّن أحد الفردين، وإلّا فينحلّ العلم الإجمالي ولا يجري الاستصحاب حينئذٍ إلّا في الفرد، لا في الكلّي، كما لو فرض أنّ زيداً محدث بالأصغر ثمّ خرجت منه رطوبة مرددة بين البول والمنيّ، ثمّ توضأ فشكّ في بقاء الحدث، فلا يجري الاستصحاب في الكلّي وهو الحدث، لأنّ الحدث الأصغر كان متيقناً وبعد خروج البلل المردد بين البول والمنيّ يشكّ في تبدله بالأكبر، فمقتضى الاستصحاب بقاء الأصغر وعدم تبدله بالأكبر، وقد قلنا سابقاً عند الكلام عن أصالة الاشتغال أنّ العلم الإجمالي إذا كان مسبوقاً بمنجزٍ فلا أثر له، وعليه فلا يجري الاستصحاب في الكلّي، بل يستصحب الحدث الأصغر ويكتفى بالوضوء. والله العالِم.
أما الكلام في الشبهة العبائية فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
|