الفرق بين «الإستصحاب»، وقاعدة «اليقين» وقاعدة «المقتضي والمانع».
أنه لا إشكال في مغايرة الإستصحاب لكلٍّ من قاعدة «اليقين» وقاعدة «المقتضي والمانع»، كما أنه لا إشكال في مباينة كل منهما للأخرى، وتوضيح ذلك، أنَّ هناك عدة أمور:
الأمر الأول: اليقين. الأمر الثاني: الشك. ويعبّر عنهما بالوصفين أو الصفتين.
الأمرالثالث: المتيقَن. الأمر الرابع: المشكوك. ويعبّر عنهما بالمتعلقَين، وبالموصوفين، وبمعروض الوصفين.
الأمر الخامس زمن اليقين والشك. الأمر السادس: زمن المتيقن والمشكوك.
اذا عرفت ذلك فنقول: لا اشكال في اختلاف متعلَق اليقين والشك في قاعدة «المقتضي والمانع»، بحيث يكون المتيقَن غيرَ المشكوك؛ إذْ اليقين يتعلق بالمقتضي (بالكسر)، والشك يتعلق بالمانع. وبيانه: أنّ المراد من هذه القاعدة أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يراد من المقتضي: ما يقتضي وجود الأثر التكويني في عالم التكوين، كاقتضاء النار للاحتراق. وأما المانع فيراد منه ما يمنع عن تأثير المقتضي، كمانعية الرطوبة الغالبة عن تأثير النار في إحراق الثوب المجاور لها.
وعليه: فمن يعبتر قاعدة «المقتضي والمانع»، يقول: أنه يجب البناء على تحقق المقتضى (بالفتح) عند العلم بوجود المقتضي (بالكسر) مع الشك في وجود المانع.
الأمر الثاني: أن يراد من المقتضي: ما يقتضي الأثر الشرعي. ويراد من المانع ما يمنع من ترتب الأثر الشرعي. كما يقال أن المستفاد من أدلة النجاسات أن الشارع جعل ملاقاة النجاسة للماء مقتضية لنجاسته، وكرية الماء مانعة عنها.
وعليه: فمن يقول باعتبار قاعدة «المقتضي والمانع»، يقول: انه يجب البناء على تحقق الأُثر الشرعي كنجاسة الماء عند العلم بالملاقاة للنجاسة إلى أن يثبت المانع وهو كريّة الماء.
والخلاصة: أن متعلق اليقين والشك في قاعدة «المقتضي والمانع» مختلف. وأما من يقول باعتبار القاعدة، فلم يُعرف إلى أيٍّ من هذين الأمرين ترجع دعواه؟. وهل هذه القاعدة حجة يصح الاعتماد عليها أمْ لا؟. المعروف أنه لا دليل عليها. وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما بالنسبة «للإستصحاب»، وقاعدة «اليقين»: فالمائز بينهما -بعد اشتراكهما من كون متعلق اليقين والشك فيهما واحداً- هو:
أن في الاستصحاب: يكون زمن المتيقن فيه مغايراً لزمن المشكوك، سواء اتّحد زمن اليقين والشك أم اختلف. فلو علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الاربعاء، ثم شككنا بعدالته يوم الخميس، فيكون هذا مورداً للاستصحاب. لأن زمن المتيقَن يوم الاربعاء، وزمن المشكوك يوم الخميس. وأما زمن اليقين والشك فهو متحد في هذا المثال، وقد يكون مختلفاً أيضاً. كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالته يوم الأربعاء وشككنا يوم الجمعة بعدالته فيه. فكما أنَّ زمن المتيقن مختلف عن زمن المشكوك، أيضاً زمن اليقين مختلف عن زمن الشك. إذْ زمن اليقين يوم الخميس وزمن الشك يوم الجمعة.
وأما قاعدة اليقين: فهي بعكس الإستصحاب، أي أنّ زمن المتيقن فيها متحدّ مع زمن المشكوك مع الاختلاف بين زمن اليقين والشك. كما لو علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الاربعاء ثم يوم الجمعة شككنا بعدالته يوم الاربعاء لإحتمال أن يكون علمنا السابق جهلاً مركباً، بحيث سرى الشك إلى نفس ما تعلق به اليقين فيتبدل يقينه بالشك. ومن هنا يسمى بالشك الساري، لأنه يسري إلى متعلق اليقين. وهل قاعدة اليقين حجة أم لا؟. المعروف أن لا دليل قوي عليها. وهذا ما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.
وقد إتضح ممّا ذكرناه: أنّه لا يمكن أن يجتمع «الإستصحاب» مع قاعدة «اليقين» وقاعدة «المقتضي والمانع»؛ كما لا تجتمع احدى القاعدتين مع الأخرى.
وقد اتضح أيضاً: أن المراد بالمقتضي في قاعدة «المقتضي والمانع» غير المقتضي عند من يقول بعدم اعتبار الاستصحاب عند الشك من المقتضي -مقابل الشك في الرافع- إذْ المراد من المقتضي عند من يقول بعدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه: ما له استعداد للبقاء في حد ذاته في عمود الزمن. كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
وقد تبين أيضاً ممّا ذكرنا: أن زمن المتيقن في الإستصحاب سابق على زمن المشكوك، فلو انعكس بأن كان زمن المشكوك سابقاً على زمن المتيقن فلا تشمله أدلة الاستصحاب، لأنَّ قولَه (عليه السلام): «لأنك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت»[1] -كما سيأتي- صريحٌ في تقدم زمن المتيقن على زمن المشكوك.
نعم في مورد واحد يكون الاستصحاب حجة فيه وهو ما إذا كان معنى اللفظ متيقناً في هذا الزمن ومشكوكاً في زمن صدور الرواية، فنحكم حينئذٍ بأن معناه كذلك في زمن صدور الرواية لأصالة عدم النقل؛ ويسمى هذا الاستصحاب، باستصحاب القهقري وهو حجّة فقط في باب اللغة لقيام بناء العقلاء على ذلك، والله العالم.
[إعتبار اليقين السابق والشك اللاحق في الإستصحاب]
*قال صاحب الكفاية (رحمه الله): وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه، اعتبار أمرين في مورده: القطع بثبوت شيء، والشك في بقائه، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول ...*
لا إشكال في اعتبار الأمرين في الاستصحاب وهما: اليقين السابق والشك اللاحق، كما بينّا سابقاً. كما أنه يعتبر فيه اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعاً ومحمولاً. فإن من تيقن باجتهاد زيد لا يصح له استصحاب عدالته، فإنه محمولٌ آخر. كما أن من تيقن باجتهاد زيد لا يصح له استصحاب اجتهاد عمرو، لتغاير الموضوع.
والسرّ في اعتبار اتحادهما موضوعاً ومحمولاً هو أنه لا يصدق الشك في البقاء مع الإختلاف المذكور؛ فإن من تيقن باجتهاد زيد وشك في عدالته، فلا يكون الشك في العدالة شكاً في البقاء، وبالتالي لا يكون رفع اليد عن اليقين في محل الشك نقضاً لليقين بالشك حتى تشمله الأخبار ويحرم النقض حينئذٍ.
الخلاصة: أنه لا بدّ من اتحاد القضية موضوعاً ومحمولاً.
ثم إنَّ ما ذكرناه واضح بالنسبة للموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية. أما الأحكام الشرعية الكلية، فتوضيحه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 37 من أبواب النجاسات والأواني والجلود، ح1.
|